الإمارات تقود التحول الرقمي في ممر التجارة الهندي - الشرق أوسطي - الأوروبي

أبوظبي في قلب الإستراتيجيات الاقتصادية لتعزيز التكامل التجاري.
الخميس 2025/09/04
شراكات مثمرة

بينما تواجه طرق التجارة التقليدية اضطرابات متزايدة، تتقدّم الإمارات بخطى مدروسة لتعيد رسم خرائط الربط الاقتصادي بين الشرق والغرب، من خلال دورها الريادي في مشروع ممر التجارة الهندي – الشرق أوسطي – الأوروبي. ولا يقتصر هذا الدور على البنية التحتية فقط، بل يشمل قيادة التحول الرقمي وبناء منظومة تجارية مرنة وآمنة، تجعل من أبوظبي مركزا إستراتيجيا في هندسة مستقبل التجارة العالمية.

أبوظبي – في خضم التوترات الجيوسياسية المتزايدة التي تهدد استقرار طرق التجارة البحرية التقليدية، خصوصا في البحر الأحمر، تشق الإمارات طريقا جديدا نحو مستقبل التجارة العالمية، عبر قيادة جهود طموحة ضمن مشروع ممر التجارة الهندي – الشرق أوسطي – الأوروبي، الذي يمثّل تحوّلا لافتا في هندسة سلاسل الإمداد العالمية.

ولا ينحصر هذا المشروع في كونه بديلا عن طرق الشحن البحري، بل يتجاوز ذلك إلى كونه منصة لإعادة صياغة مفهوم الربط الاقتصادي عبر ممر رقمي – لوجستي متكامل، تقف أبوظبي في قلبه، بوصفها اللاعب المحوري في إعادة تشكيل خارطة التجارة بين آسيا وأوروبا.

ومن خلال الجمع بين الابتكار التكنولوجي والبنية التحتية المتطورة، ترسّخ الإمارات دورها كقوة تنظيمية وقيادية في هذا التحول العابر للحدود.

ويقول الباحث آفاق حسين، في تقرير نشره المجلس الأطلسي، إن أبوظبي أدركت مبكرا أن صيانة موقعها كمركز تجاري عالمي لا تقتصر على بناء موانئ متقدمة أو مناطق حرة تنافسية، بل تستوجب أيضا قيادة التحول الرقمي الذي بات اليوم الركيزة الأساسية لأي منظومة تجارية مرنة وفعالة.

وتُترجم هذه الرؤية عمليا من خلال مبادرات نوعية، أبرزها إطلاق ممر التجارة الافتراضي بين الهند والإمارات، المبني على منصة “ميتري” الرقمية، التي تمثل العمود الفقري للربط الإلكتروني بين الأنظمة الجمركية والإجرائية في الدول الشريكة، ما يسهم في تقليص زمن الإجراءات، وخفض التكاليف التشغيلية، وتعزيز الشفافية في تبادل المعلومات التجارية.

ولا تكمن أهمية هذه المنصة في بُعدها التقني فقط، بل في رمزيتها السياسية والاقتصادية، باعتبارها انعكاسا لرغبة الإمارات في دفع الشراكات الإقليمية إلى مستوى غير مسبوق من التكامل، بعيدا عن الشكل التقليدي للتجارة العابرة للحدود.

وبفضل خبرتها العميقة في إدارة موانئ عالمية مثل جبل علي وخبرتها الرقمية المتقدمة، تحولت الإمارات من دولة عبور إلى دولة تمكين لوجستي وبيئي وتكنولوجي، ما يمنحها القدرة على صياغة قواعد جديدة للتجارة بين الشرق والغرب.

ويتجاوز دور الإمارات في مشروع الممر البعد التنفيذي إلى بعد إستراتيجي أوسع، حيث تتولّى تنسيق الجهود بين الدول الشريكة، وخصوصًا في ما يتعلق بتوحيد المعايير، وتوافق الإجراءات، وبناء منظومة سياسات تجارية تعمل بانسجام.

ومع توسّع نطاق الممر ليشمل شبكات من السكك الحديد والطرق البرية والموانئ البحرية، تبرز الحاجة إلى عقل منظم يضمن الانسيابية والتكامل، وهو الدور الذي باتت الإمارات تقوم به بثقة، مدعومة بتجربتها الطويلة في الحوكمة الرقمية، وبتحالفاتها المتينة مع الهند والسعودية ودول أوروبية.

وفي الوقت الذي تسعى فيه بعض الدول إلى تجاوز الأزمات عبر حلول وقتية، تستثمر الإمارات في المستقبل، عبر بناء نموذج دائم ومستدام للتجارة الذكية.

ويشكل تطوير القدرات البشرية في القطاعين الحكومي والخاص ركيزة ثانية لهذه الرؤية، إذ تدعم أبوظبي برامج تدريب وتأهيل متقدمة لضمان الجاهزية المؤسسية لاستيعاب هذا التحول، ما يعكس فلسفة تنموية ترى في التحول الرقمي ليس مجرد أداة تقنية، بل رافعة شاملة للحوكمة التجارية والتكامل الاقتصادي.

التحول من دولة عبور إلى دولة تمكين يمنح أبوظبي القدرة على صياغة قواعد جديدة للتجارة بين الشرق والغرب

ومن الناحية الجيوسياسية يكتسب دور الإمارات أهمية مضاعفة. فبينما يعاني البحر الأحمر من تراجع الثقة بسبب التهديدات الأمنية المتكررة، توفر الإمارات، عبر الممر، بديلا أكثر استقرارا لا يُراهن فقط على الجغرافيا، بل على التكنولوجيا والتحالفات المتقدمة. إذ إنها لا تنافس طريقا بحريا بآخر بري أو رقمي، بل تقدم منظومة متكاملة تربط بين العالمين، وتحفّز الاستثمارات العابرة للحدود، وتحمي سلاسل الإمداد من المخاطر الجيوسياسية واللوجستية.

ويعكس كل ذلك تحوّلا جوهريا في موقع أبوظبي ضمن الاقتصاد السياسي الإقليمي والدولي. فبدلا من أن تكتفي الإمارات بدور الممر أو المنصة، أصبحت شريكا بنّاء في صياغة النموذج التجاري العالمي الجديد، حيث تُحدد الأولويات لا فقط بحسب الربحية، بل أيضا وفق معايير الاستدامة والأمن السيبراني.

ولا تكتفي الإمارات بقيادة التحول الرقمي ضمن مشروع الممر، بل تقود تحولا إستراتيجيا في فلسفة التكامل الإقليمي، حيث تغدو التكنولوجيا وسيلة لتعزيز السيادة الاقتصادية، وبناء الشراكات العابرة للمسافات السياسية والجغرافية. إنها ليست فقط في قلب هذا المشروع، بل في قلب المرحلة الجديدة من التجارة الدولية نفسها.

وفي عالم تتسارع فيه التغيرات الجيوسياسية وتتداخل فيه الأجندات الإقليمية والدولية، تسير الإمارات بخطى محسوبة نحو تعزيز استقلالية قرارها التجاري والسياسي، من خلال تموضع جيوسياسي ذكي يعتمد على أدوات “القوة الناعمة المنظمة”، وليس فقط على النفوذ الاقتصادي أو العلاقات الثنائية.

ومن خلال قيادة مشاريع مثل الممر الهندي – الشرق أوسطي – الأوروبي، تُحرر الإمارات نفسها تدريجيا من الاعتماد الحصري على الممرات البحرية التقليدية (مثل مضيق هرمز أو البحر الأحمر)، ما يقلل من تعرضها للضغط الجيوسياسي المرتبط بهذه النقاط الحساسة.

ويقول مراقبون إن أبوظبي تبني مسارات بديلة لا تقتصر على البنية التحتية، بل تشمل أيضًا البنية المؤسسية التي تمنحها قدرة على المناورة والتحكم.

ويمنح هذا التحول الإمارات مساحة أوسع في صياغة قراراتها التجارية، ويقلص التبعية اللوجستية والسياسية لمسارات غير مستقرة أو خاضعة للتنافس الجيوسياسي الحاد.

ولا تعتمد الإمارات في تموضعها الجديد على الأحلاف التقليدية فحسب، بل تبني شبكات مرنة من الشراكات الاقتصادية والتكنولوجية تمتد من الهند إلى أوروبا، ومن آسيا الوسطى إلى شرق أفريقيا؛ إذ إن هذه الشبكات ليست مجرد أدوات تعاون، بل هي روافع تأثير، تُمكّن أبوظبي من لعب أدوار وسيطة وتنظيمية في قضايا اقتصادية واستثمارية تمتد خارج حدود الخليج.

وعبر هذه الشبكات تعزّز الإمارات نفوذها بهدوء وفاعلية، دون الدخول في استقطابات سياسية حادة، ما يمنحها دورا مرنا ومقبولا دوليا، خاصة من القوى التي تبحث عن بدائل “غير مؤدلجة” أو “غير صدامية” للنفوذ التقليدي في المنطقة.

وتعكس إستراتيجية الإمارات تحولاً من سياسات الاتكاء على القوى الكبرى إلى بناء علاقات شراكة متوازنة. فالعلاقة مع الهند، مثلاً، لم تعد علاقة استثمارية تقليدية، بل أصبحت شراكة في إدارة مشاريع عابرة للحدود. وكذلك مع الدول الأوروبية، حيث تدخل الإمارات في هندسة سلاسل الإمداد التي تخدم مصالح الطرفين بشكل متكافئ.

ويعزز هذا النمط من العلاقات استقلالية القرار الإماراتي، لأنه لا يربطها بنقطة ارتكاز واحدة، بل ينشر ثقلها الجيوسياسي على محاور متعددة، وبهذا تزداد قدرتها على الموازنة والتموضع في وجه التغيرات المفاجئة.

وربما تكمن أبرز ملامح التموضع الإماراتي في أنه نفوذ غير صاخب، لا يعتمد على الشعارات السياسية، ولا على التدخلات العسكرية، بل على أدوات الاستدامة والحوكمة والكفاءة التنظيمية. إنه نفوذ “قابل للتصدير”، لأنه يلبّي حاجات الشركاء بدلًا من فرض الأجندات عليهم.

وهذا النمط من النفوذ يلقى قبولاً أوسع في عالم يبحث عن شراكات موثوقة ومرنة في بيئة إقليمية تتسم بالتقلبات والصراعات، ما يجعل الإمارات رقما صعبا في أي معادلة توازن مستقبلية في الشرق الأوسط وما وراءه.

07