اتفاق ترامب للسلام ينسف أهداف نتنياهو السياسية واحدا تلو الآخر

المفارقة أن نتنياهو نفسه اضطر للدفاع عن الاتفاق الذي يتناقض مع كل ما ظل يعلنه طيلة سنوات، مدعيًا أنه إنجاز لإسرائيل.
الخميس 2025/10/16
فشل مكلف سياسيا

واشنطن- استغرق الوصول إلى اتفاق وقف الحرب في غزة قرابة عامين من المعارك والدمار، ترافقا مع احتجاجات إسرائيلية لا تهدأ للمطالبة بالإفراج عن الرهائن، إلى أن برزت فرصة نادرة بفعل تحرك أميركي مباشر قاده الرئيس دونالد ترامب، الذي بدا عازمًا على تحقيق ما عجز عنه أسلافه.

وبعد أن حشد ترامب دعمًا من دول عربية وإسلامية كبرى — بينها قطر وتركيا ومصر والسعودية — لخطته لإنهاء الحرب، لم يجد الطرفان، إسرائيل وحماس، بدًّا من القبول بها.

وفي غضون أيام قليلة، انسحب الجيش الإسرائيلي من معظم مناطق غزة، بينما أفرجت حماس عن جميع الرهائن الإسرائيليين الأحياء وعددهم عشرون.

وكان المشهد ذروة مسار سياسي معقد تُوّج بقمة سلام استضافها منتجع شرم الشيخ المصري، بمشاركة واسعة لقادة دول عربية وغربية، لكن من دون حضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي لم يُدع رسميًا إلا بعد تدخل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بحضور ترامب.

الاتفاق الذي رعاه ترامب نسف تقريبًا كل المفاهيم والأهداف التي بنى عليها نتنياهو استراتيجيته منذ سنوات

وبرغم الإشارة الوجيزة إلى احتمال جلوس نتنياهو إلى طاولة واحدة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس لبحث قضايا إعادة الإعمار ومستقبل غزة، فإنه اختار في النهاية الغياب، في لحظة تعكس عمق العزلة السياسية التي وصل إليها.

وفي تحليل نشره المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس)، رأت السياسية والمحللة الإسرائيلية كسينيا سفيتلوفا أن ما حدث خلال الأيام الأخيرة في ملف حرب غزة شكّل مشهدًا غير مسبوق في التاريخ السياسي الإسرائيلي، تمامًا كمشهد اعتذار نتنياهو لقطر عن قصف استهدف مقرًا لقيادات حماس في الدوحة.

والسؤال الذي تطرحه اليوم الأوساط السياسية في تل أبيب هو: هل فقد نتنياهو فعلاً السيطرة على السلطة؟.

وتقول سفيتلوفا إن الاتفاق الذي رعاه ترامب نسف تقريبًا كل المفاهيم والأهداف التي بنى عليها نتنياهو استراتيجيته منذ سنوات. أول ما سقط هو شعار “النصر الكامل” الذي تبنّاه خلال الحرب. فقبل أسابيع فقط، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يرفض بشدة أي تفاوض مع حماس أو أي اتفاق يؤدي إلى وقف القتال، متمسكًا بخيار القضاء التام على الحركة ونزع سلاحها دون تأجيل.

كما رفض إشراك السلطة الفلسطينية في أي دور لإعادة إعمار غزة، أو السماح بتدفق المساعدات الإنسانية إلا عبر قنوات تابعة لإسرائيل ثبت فشلها لاحقًا وتم تفكيكها.

لكن المفارقة أن نتنياهو نفسه اضطر لاحقًا للدفاع عن الاتفاق الذي يتناقض مع كل ما ظل يعلنه طيلة سنوات، مدعيًا أنه إنجاز لإسرائيل، رغم أنه في الواقع يمثل تراجعًا جذريًا عن مجمل سياساته.

وفي غضون أيام، تقرر فتح معبر رفح بإشراف شرطة فلسطينية مدربة في مصر، بما يعني عمليًا عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة بعد غياب دام نحو عقدين، وبداية عملية إعادة توحيد الضفة والقطاع التي طالما سعى نتنياهو لإجهاضها.

pp

ومنذ مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، صاغ نتنياهو نهجه السياسي وفق مبدأ “فرق تسد”، فعمل على إضعاف السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، مع إبقاء حماس على قيد الحياة في غزة، لتقويض أي احتمال لقيام دولة فلسطينية موحدة.

وتجلت هذه السياسة في تشجيع الاستيطان، والسماح بتدفق الدعم المالي الخارجي إلى حماس بموافقته الضمنية، بهدف ترسيخ الانقسام الفلسطيني الداخلي.

غير أن هجوم 7 أكتوبر 2023 الذي أسفر عن مقتل أكثر من 1200 إسرائيلي — معظمهم من المدنيين — أطاح بهذه المعادلة تمامًا. فالحرب الطويلة التي أعقبت الهجوم، وما خلفته من مأساة إنسانية هائلة في غزة، دفعت العالم إلى إعادة النظر في علاقته مع حكومة نتنياهو، إلى درجة أن مسؤولين سعوديين صرحوا علنًا بأن المملكة لن تنضم إلى اتفاقيات “أبراهام” ما دام نتنياهو في الحكم.

وترى سفيتلوفا أن اتفاق ترامب للسلام لم ينهِ الحرب فحسب، بل كشف أيضًا الانهيار الهيكلي في منظومة الحكم الإسرائيلية. فالسلطة الفلسطينية تزداد نفوذًا، بينما جدول نزع سلاح حماس مؤجل وغير محدد، والطريق إلى الدولة الفلسطينية يحظى الآن بدعم غير مسبوق من غالبية المجتمع الدولي.

لكن مصير الحكومة الإسرائيلية لا يزال معلقًا. فإذا لم يستقل بتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن غفير احتجاجًا على بنود الاتفاق، فقد تبقى حكومة نتنياهو لبضعة أشهر فقط، حتى موعد الانتخابات المقررة في أواخر 2026. إلا أن الضغط الشعبي والمطالب المتزايدة بتشكيل لجنة تحقيق في الإخفاقات الأمنية التي سبقت هجوم حماس ستبقى تلاحق نتنياهو، خاصة بعدما أصر على تأجيلها إلى ما بعد الحرب.

ويضاف إلى ذلك الخلاف المحتدم حول مشروع قانون التجنيد الإجباري، الذي يهدف إلى إنهاء إعفاء المتشددين دينياً من الخدمة العسكرية، في بلد فقد أكثر من 915 جندياً في معارك غزة، مما يهدد بتفجير أزمة سياسية جديدة داخل الائتلاف الحاكم.

وأما على صعيد الشعبية، فتشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب الليكود بزعامة نتنياهو سيفقد قدرته على تشكيل أي ائتلاف مستقر في حال جرت انتخابات مبكرة، رغم الارتفاع الطفيف في شعبيته مؤخرًا. وربما لهذا السبب يحاول رئيس الوزراء تأجيل الاقتراع إلى حين يعتقد أن فرصه في البقاء قد تحسّنت.

pp

وقبل زيارة ترامب لإسرائيل، لوّح نتنياهو بالعودة إلى القتال إذا خرقت حماس الاتفاق، لكن حتى أقرب حلفائه في اليمين باتوا يدركون أن مثل هذا التهديد لم يعد ممكنًا في ظل إرادة أميركية صارمة لإنهاء الحرب.

وتختتم سفيتلوفا تحليلها بالقول إن سياسات نتنياهو تنهار واحدة تلو الأخرى، غير أن المعسكر المؤيد لتوجهاته لا يزال يمتلك وزنًا ملموسًا داخل إسرائيل، بينما يلف الغموض مصير الضفة الغربية.

ومن غير الواضح ما إذا كان شركاء نتنياهو من اليمين المتطرف سيتمكنون من استغلال المرحلة المقبلة لتوسيع المستوطنات وبناء أخرى جديدة، في ظل رفض عالمي واسع لأي خطوات أحادية، وتنامي الدعم الدولي لخيار الدولة الفلسطينية القابلة للحياة في الضفة وغزة.

وبهذا، يظهر أن اتفاق ترامب للسلام في غزة لم ينهِ الحرب فحسب، بل وضع حدًا لأسطورة “إدارة الصراع” التي تبناها نتنياهو لعقود، وفتح الباب أمام مرحلة إقليمية جديدة، تتقدم فيها الدبلوماسية الأميركية والعربية بينما يتراجع المشروع السياسي لليمين الإسرائيلي أمام واقعٍ لا يمكن تجاهله: الدولة الفلسطينية باتت مسألة وقت، لا خيارًا سياسيًا.

3