اتحاد الشغل يستغل أزمة البيئة في قابس للعودة إلى واجهة الضغط السياسي
تونس - أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل، السبت، عن خوض إضراب عام شامل في ولاية (محافظة) قابس جنوب شرقي البلاد، الثلاثاء المقبل، احتجاجا على التلوث البيئي الصادر عن وحدات المجمع الكيميائي بالمدينة.
ولم يعد هذا الإضراب مجرد استجابة نقابية لمطالب بيئية، بل تحول إلى ما يشبه المناورة السياسية الكبرى التي يستغلها الاتحاد للعودة إلى واجهة الضغط وتثبيت نفوذه كقوة لا يمكن تجاوزها في المشهد التونسي.
ويعد هذا التصعيد، الذي اختار فيه الاتحاد "أعلى سقف مطلبي" وهو الإضراب العام، خطوة ذات دلالات سياسية عميقة.
ويأتي قرار الإضراب العام بعد احتجاجات متواصلة ينفذها أهالي قابس منذ أيام، للمطالبة بوقف الانبعاثات الغازية والملوثات الصادرة عن وحدات إنتاج الفوسفات، وسط تحذيرات جدية من تدهور بيئي وصحي.
ويقع المجمع الكيميائي في منطقة "شاطئ السلام"، التّي يقطنها نحو 18 ألف نسمة، وتبعد قرابة 4 كلم عن مدينة قابس، وتم إنشاء المجمع عام 1972، وبداخله وحدات لتصفية مادة الفوسفات.
وشهدت منطقة "شاطئ السلام" الأسبوع الماضي وقفة احتجاجية شارك فيها عدد من الأهالي تنديدا بتردي الوضع البيئي، عقب تعرض مجموعة من تلاميذ مدرسة إعدادية للاختناق في سبتمبر الماضي نتيجة انبعاثات غازية من الوحدات الصناعية التابعة للمجمع الكيميائي.
وقال اتحاد الشغل فرع قابس، في بيان مقتضب عبر حسابه على فيسبوك، إن الهيئة الإدارية الجهوية قررت خوض الإضراب العام الثلاثاء، 21 أكتوبر الجاري.
وفي بيان سابق، اعتبر الاتحاد أن قابس تتعرض لعملية "قتل بطيء وصامت" منذ عقود جراء الصناعات الملوثة التي دمرت صحة السكان والبيئة برا وبحرا وجوا.
ودعا السلطات إلى تفكيك الوحدات الصناعية الملوثة ووقف الأنشطة المضرة.
وأكد صلاح بن حامد، الكاتب العام للاتحاد المحلي للشغل بقابس، أن "الهيئة الإدارية الجهوية للاتحاد، المجتمعة (السبت)، اتخذت بالإجماع قرار الإضراب العام الجهوي".
وأوضح بن حامد في تصريح لإذاعة "موزاييك إف إم" السبت، أن "الهيئة ستبقى في حالة انعقاد للتفاعل مع أي قرار يتخذ".
وبالمقابل، أكد الرئيس التونسي قيس سعيد، في وقت سابق السبت، أن العمل جار بهدف إيجاد حلول عاجلة آنية للتلوث، وفق بيان للرئاسة، بعدما دعا قبل أيام إلى وضع حد للتلوث الكيميائي بالمحافظة وإصلاح ما يجب إصلاحه بأقرب وقت.
وتبرز الرئاسة التونسية التزامها بمعالجة الأزمة، فقد تطرق الرئيس، خلال استقباله الجمعة بقصر قرطاج رئيس مجلس نواب الشّعب إبراهيم بودربالة ورئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم عماد الدربالي، مطوّلا إلى الوضع البيئي بمدينة قابس.
وأكّد سعيد على متابعته المستمرّة للأحداث، مشدّدا على أنّ معالجتها "لا يمكن أن تتمّ وفق مقاربات تقليدية"، وأنّ "العمل جارِ بهدف إيجاد حلول عاجلة آنيّة للتلوّث إلى حين وضع استراتيجيّة شاملة لا في قابس فحسب، بل في كلّ مناطق الجمهوريّة".
ونوّه سعيد بما أبداه "أبناء قابس وأبناء وطننا العزيز في كلّ مكان من وعي عميق، ومن غير المبالغة على الإطلاق، التأكيد على أنّه وعي غير مسبوق".
وحذّر الرئيس سعيد من استغلال الأزمة لأغراض سياسية، فقد أشار إلى ضرورة أن يكون "الأهالي وقوات الأمن صفا واحدا في مواجهة من يريدون استغلال الأوضاع البيئية الكارثية لأغراضهم الخاصّة وهي أغراض لم تعد تخفى على أحد".
وضرب الرئيس مثالا على الوعي الوطني بما قامت به "إحدى حرائر تونس بمفردها ليلة (الخميس) حين تمكّنت انطلاقا من شعورها المُفعم بالمسؤوليّة الوطنيّة وبشجاعتها وإقدامها على إقناع مجموعة من المحتجّين بالانسحاب من المفترقات التي كانوا يحتجّون فيها".
ويفهم من هذا التحذير المباشر أن الرئاسة تدرك أن تحرك الاتحاد الأخير ليس بيئيا صرفا، بل مناورة لفرض الشراكة السياسية والضغط على سلطة الدولة.
وفي سياق إيجاد الحلول العاجلة، أعلنت وزارة التجهيز والإسكان التونسية عن مباحثات مع سفير الصين، فقد التقى وزير التجهيز صلاح الزاوي السبت السفير وان لي للنظر في "إمكانية تأهيل وحدات الإنتاج في منطقة شاطئ السلام ومعالجة الانبعاثات والتسربات الغازية منه والقضاء على أسبابها ووضع حد للتلوث البيئي بالجهة".
وتأمل السلطة التي يقودها الرئيس سعيد في مساعدة من قبل الصين، معززة بالعلاقات السياسية والاقتصادية المتنامية بين البلدين، في مسعى لاحتواء الاحتجاجات الغاضبة في قابس وتقديم حل تقني يجنب البلاد الخيار الصفري (التفكيك).
ويشير تبني الاتحاد لـ"الخيار الصفري" (تفكيك الوحدات) إلى أن الهدف يتجاوز حماية البيئة ليصب في خانة إعادة تموضع الاتحاد كشريك سياسي لا يمكن تجاوزه.
ويسعى الاتحاد إلى إظهار قدرته على تعبئة الشارع وتعطيل مؤسسات الدولة، مستغلا حساسية قضية التلوث واغتراب أهالي قابس، ليرسل رسالة واضحة إلى الحكومة مفادها أنه ما زال يحتفظ بـ "فيتو" الإضراب الشامل.
وفي ظل تراجع تأثيره المباشر على القرارات الكبرى بعد إجراءات 21 يوليو 2021، يستغل الاتحاد هذه "المحطة النضالية" ليعود إلى طاولة المفاوضات بقوة، وليفرض أجندته على الحكومة في ملفات أخرى غير بيئية بالأساس.
ويواجه موقف الاتحاد اتهامات بالتناقض الوظيفي والتضحية بالاستقرار الاقتصادي للجهة مقابل مكاسب نضالية.
ففي الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد التونسي من أزمات هيكلية، يختار الاتحاد "الخيار الصفري" دون تقديم أي خطة بديلة لآلاف العمال في المجمع الكيميائي.
ويعدّ هذا الموقف منافيا لدور الاتحاد الأساسي، حيث يدعو بشكل غير مباشر إلى إلغاء آلاف الوظائف بتعطيل النشاط والمطالبة بالتفكيك الفوري لقرار 2017، دون مراعاة لجدواه الاقتصادية أو الاجتماعية، وهذا ما يحول قضية بيئية عادلة إلى فوضى اقتصادية لخدمة أهداف ذاتية تتعلق بإعادة بناء قاعدة شعبية متأثرة بالغضب البيئي والاجتماعي.