إشراك الشباب في العملية السياسية: مبادرة أممية طموحة تواجه معضلة التنفيذ في ليبيا
طرابلس- أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، أمس الأحد، عن فتح باب التسجيل أمام الشباب الليبي للمشاركة في حلقة نقاشية عبر الإنترنت، ضمن برنامج “الشباب يشارك”، بهدف تعزيز دور الشباب في العملية السياسية الليبية المتعثرة.
ووفق ما نشرته البعثة عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك، فإن النقاش سيتمحور حول الخيارات والتوصيات التي طرحتها اللجنة الاستشارية، كما سيتضمن الاستماع إلى مخاوف الشباب وتطلعاتهم بشأن مستقبل بلادهم، في ظل انسداد سياسي طال أمده.
وتستهدف هذه المشاورات فئة الشباب من طلبة الجامعات الليبية الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا، وتُعقد الجلسة الأولى يوم الأربعاء المقبل عبر منصة “زووم.”
وقد أكدت البعثة الأممية أنها ستتواصل مع المشاركين بعد استكمال بيانات التسجيل، كما أشارت إلى أن هذه الخطوة ستكون بداية لسلسلة من اللقاءات المقبلة، التي ستُعقد إما افتراضيًا أو حضوريًا، في إطار سعيها لتوسيع قاعدة المشاركة المجتمعية في القضايا الوطنية.
الثقة في جدوى هذه الحوارات لا تزال محدودة، في ظل غياب ضمانات تتيح تحويل التوصيات إلى قرارات عملية قابلة للتنفيذ
وتأتي هذه المبادرة في سياق سياسي هش، حيث تتواصل الخلافات بين الأطراف الليبية حول تنظيم الانتخابات، وتقاسم السلطة، وصياغة القوانين الدستورية، في وقت يُنظر فيه إلى الشباب كعنصر مغيب عن المشهد رغم كونهم يشكلون غالبية السكان.
وفي هذا السياق، تُطرح تساؤلات جوهرية حول مدى فاعلية مثل هذه الحوارات، وهل تمثل بداية فعلية لإشراك الشباب في القرار السياسي، أم مجرد خطوة رمزية تهدف إلى تجميل المشهد العام دون تغيير جوهري.
وبالنسبة للكثير من الشباب الليبي، يمثل فتح هذا الباب فرصة طال انتظارها للتعبير عن آرائهم في قضايا تمس حاضرهم ومستقبلهم، خصوصًا في ظل الشعور المتزايد بالإقصاء من الفضاء السياسي، وتراكم الإحباطات المرتبطة بسوء الخدمات، وغياب الاستقرار، وتراجع فرص العمل والتعليم. غير أن ثقة البعض في جدوى هذه الحوارات لا تزال محدودة، خصوصًا في ظل غياب ضمانات واضحة تتيح تحويل التوصيات الناتجة عنها إلى قرارات عملية قابلة للتنفيذ.
ويرى متابعون أن أهمية هذه المبادرة لن تقاس فقط بعدد المشاركين أو طبيعة الموضوعات المطروحة، بل بمدى التفاعل الجاد مع مخرجاتها من قبل المؤسسات المعنية، سواء في الداخل الليبي أو على مستوى البعثة الأممية. فالحوار مع الشباب لا ينبغي أن يكون مجرد نشاط شكلي، بل يجب أن يمثل بداية لمسار متكامل نحو تمكينهم من لعب دور محوري في رسم السياسات العامة، والمشاركة في إعادة بناء الدولة على أسس أكثر شمولاً وعدلاً.
وفي المقابل، يعتبر آخرون أن الاعتماد على مشاورات افتراضية قد يحد من تمثيل فئات واسعة من الشباب، لاسيما أولئك الذين يعيشون في مناطق نائية أو يفتقرون إلى البنية التحتية الرقمية، مما يطرح ضرورة التوسع لاحقًا في عقد لقاءات ميدانية وحضورية تتيح مشاركة أوسع وأكثر تفاعلية.
كما يطالب عدد من النشطاء بأن تشمل هذه المشاورات شرائح متنوعة من الشباب، بمن فيهم غير الجامعيين، والعاملون في المجتمع المدني، والمتأثرون بشكل مباشر بالنزاعات المسلحة، حتى لا يقتصر النقاش على شريحة محدودة قد لا تعكس التنوع الحقيقي للمجتمع الليبي.
ورغم أن البعثة لم توضح بعد كيف ستُوظف نتائج هذه الحوارات في العملية السياسية الجارية، فإن الخطوة تُعد في نظر البعض بادرة إيجابية نحو إعادة الاعتبار لصوت الشباب، في بلد ما زال يفتقر إلى آليات مؤسسية تعزز المشاركة المجتمعية.

ومع ذلك، فإن نجاح المبادرة سيبقى مرهونًا بمدى جديتها واستمراريتها، وبما إذا كانت ستُترجم إلى سياسات فعلية تُحدث فرقًا حقيقيًا، لا أن تبقى مجرد مبادرة عابرة تُضاف إلى سلسلة من المحاولات غير المكتملة في مسار طويل ومعقد.
وتأتي هذه المبادرة الأممية في ظل بيئة سياسية مشحونة ومعقدة تعيشها ليبيا منذ سنوات، حيث فشلت حتى الآن كل المحاولات الأممية والمحلية في التوصل إلى توافق مستدام حول القضايا المفصلية، مثل الانتخابات، الدستور، وتوحيد المؤسسات السيادية.
وفي ظل هذا الانسداد، باتت فئة الشباب من بين أكثر المتضررين، لا فقط من الناحية الاقتصادية والمعيشية، بل أيضًا على مستوى التمثيل السياسي والقدرة على التأثير في مسار الأحداث.
ويُعد تغييب الشباب عن مواقع التأثير أحد الملامح البارزة للمشهد الليبي، إذ تهيمن عليه نخبة سياسية متنازعة، تُتهم على نطاق واسع بعدم إتاحة الفرصة لتجديد الطبقة السياسية أو الاستماع إلى مطالب الأجيال الجديدة. كما لم تُفعل حتى الآن سياسات واضحة لدمج الشباب في مؤسسات الدولة أو دعم مبادراتهم المجتمعية، رغم ما تشهده ليبيا من ديناميكيات اجتماعية سريعة وتحديات أمنية واقتصادية مركبة.
كما أن الاعتماد المتزايد على الحلول السياسية المغلقة، والتي تقتصر على المفاوضات بين النخب، أضعف ثقة قطاعات واسعة من المواطنين في جدوى المسارات الرسمية، وعمّق الفجوة بين الشارع ومراكز القرار.
وفي هذا الإطار، ترى بعض التحليلات أن إعادة بناء العلاقة بين المجتمع والدولة لا يمكن أن تتم دون إشراك الشباب باعتبارهم الفاعل الرئيسي في مستقبل البلاد، لاسيما أن نسبة كبيرة من السكان تقل أعمارهم عن 35 عامًا.
وفي خلفية هذا المشهد، تحضر أيضًا تجارب دول أخرى في المنطقة، حيث أفضى تهميش الشباب إلى اضطرابات اجتماعية أو موجات هجرة واسعة، وهو ما يضع المجتمع الدولي، وعلى رأسه الأمم المتحدة، أمام مسؤولية مضاعفة في دعم مسارات سياسية أكثر انفتاحًا وتشاركية في ليبيا، قادرة على احتواء التوترات من جهة، وتلبية تطلعات الشباب من جهة أخرى.
المشاورات تستهدف فئة الشباب من طلبة الجامعات الليبية الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا، وتُعقد الجلسة الأولى يوم الأربعاء المقبل عبر منصة “زووم”
وعلى مدى السنوات الماضية، لعبت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أدوارًا متفاوتة بين الوساطة السياسية، ودعم الحوار بين الأطراف المتنازعة، ومحاولة بناء مسار دستوري توافقي، إلا أن هذه الجهود واجهت عقبات هيكلية مرتبطة بعدم استقرار البيئة المحلية، وانعدام الثقة بين القوى السياسية، وغياب مؤسسات شرعية موحدة.
وفي هذا السياق، وجدت البعثة نفسها في موقعٍ يتطلب تجاوز النخب التقليدية والبحث عن شركاء جدد داخل المجتمع، بما في ذلك فئة الشباب والنساء، بوصفهم الطرف الأقل تمثيلًا والأكثر استعدادًا للانخراط في مشروع وطني جامع.
وظلت العديد من المبادرات التي أطلقتها الأمم المتحدة في ليبيا خلال السنوات الماضية، رغم أهميتها، حبيسة قاعات المؤتمرات أو طاولة المفاوضات، ولم تُترجم على نحو فعّال إلى مسارات مستدامة على الأرض.
وفي المقابل، ظهرت أصوات محلية متزايدة تدعو إلى دمج الفئات المجتمعية في الحوارات الوطنية كسبيل لإعادة بناء شرعية سياسية شعبية غائبة منذ سقوط النظام السابق، وهو ما قد تكون مبادرة “الشباب يشارك” محاولة للاستجابة له، ولو جزئيًا.
ومن جهة أخرى، تبرز قضية تمثيل الشباب الليبي في العملية السياسية ضمن نقاش أوسع حول مفهوم المشاركة ذاته، إذ أن الانخراط السياسي ظل، لفترة طويلة، محصورا إما في أطر شكلية أو عبر شبكات الزبائنية القائمة على الولاءات المناطقية والعائلية.
وجعل هذا الواقع كثيرًا من الشباب ينأون بأنفسهم عن العمل السياسي التقليدي، ويفضلون الانخراط في أنشطة مدنية، أو الهجرة، أو البقاء في الهامش، مما خلق فجوة يصعب ردمها من خلال دعوة افتراضية فقط، ما لم تقترن بإصلاحات أعمق.
وإضافة إلى ذلك، فإن الخطاب السياسي السائد في البلاد ظل في الغالب متصلبًا وذا طابع نخبوي، لا يتيح مساحة حقيقية للتجديد أو لإدماج روافد اجتماعية جديدة، سواء عبر الإعلام، أو الأحزاب، أو الهياكل التمثيلية. ومن هنا، فإن أي توجه نحو إشراك الشباب لا يمكن أن ينجح ما لم يُرافقه تغيير في البنية السياسية القائمة، وتحفيز الحياة الحزبية والمدنية لتكون جاذبة وفعالة.