إشارات أمل في سوريا لكن الطريق إلى الاستقرار لا يزال طويلا

المشهد في دمشق يعكس مزيجا متناقضا من إشارات أمل خافتة ومخاطر عميقة.
الثلاثاء 2025/09/09
فرصة نادرة لتغيير المسار

دمشق - تشهد سوريا في هذه المرحلة الانتقالية واحدة من أكثر لحظاتها حساسية وتعقيدًا منذ اندلاع الأزمة قبل أكثر من عقد. وبعد مرور تسعة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد وفراره إلى روسيا، يبرز أحمد الشرع، القائد السابق في المعارضة، كرئيس لحكومة جديدة تحاول لملمة ما تبقى من الدولة السورية، والسير بها نحو مستقبل لا يزال غامض المعالم.

ويرى محللون أن المشهد في دمشق يعكس مزيجا متناقضا من إشارات أمل خافتة ومخاطر عميقة، وسط بيئة سياسية وأمنية واجتماعية لم تتعافَ بعد من آثار الحرب والانقسام والعزلة.

وتبدو محاولات بناء الدولة وكأنها عملية تنقيب عن الاستقرار في حقل من الركام. فالوزارات، التي طالها التدمير والإهمال، بدأت تستعيد أنفاسها ببطء، مدعومة بجهود محلية ومبادرات من أفراد من القطاع الخاص وجدوا في العمل العام واجبا وطنيا.

ومع أن الشرع يحاول تقديم نفسه كرجل توافقي قادر على تخطي الحساسيات الطائفية والسياسية، إلا أن هشاشة البنية الإدارية وتفشي شبكات الولاء المتضاربة وتراكم الانقسامات الطائفية والمناطقية تجعل من كل خطوة إلى الأمام محفوفة بالتوجس.

سوريا خرجت من نفق مظلم، لكنها لم تصل بعد إلى الضوء الكامل. الطريق إلى التعافي يحتاج رؤية وطنية جامعة

ولا تزال العلاقة بين الدولة والمجتمع قائمة على انعدام الثقة، وهو ما يعوق بناء أي عقد اجتماعي جديد، خصوصا في ظل غياب رواية وطنية موحدة تُلهم جميع السوريين.

وعلى المستوى الاقتصادي تبدو محاولات الحكومة لجذب الاستثمارات ووضع خارطة طريق للتنمية طموحة لكنها تصطدم بواقع خانق.

ولا تزال العقوبات الغربية قائمة رغم تخفيفها، والبنوك الدولية تتردد في التعامل مع دمشق، والمستثمرون سواء من الداخل أو الخارج لا يخفون قلقهم من الهشاشة الأمنية وعدم وضوح الرؤية السياسية.

وفي الوقت ذاته تحاول الحكومة خلق بيئة تشجع على ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة، لكن نتائج هذه الجهود لا تزال محدودة.

وما يزيد من هشاشة المشهد الاقتصادي غياب نظام مالي شفاف، ومواصلة النخب القديمة التحكم في موارد الدولة، بما في ذلك المساعدات والمشاريع التنموية، وهو ما يولد شكوكا حول مدى جدية الإصلاحات.

ولا يقل النسيج الاجتماعي السوري هشاشة عن الوضعين السياسي والاقتصادي. فرغم رحيل الأسد لم تتبدد المخاوف المتبادلة بين الطوائف والمناطق، بل زادت في بعض الحالات نتيجة حوادث العنف التي اندلعت في السويداء والساحل السوري.

وتشعر الكثير من الأقليات، خاصة الدروز والعلويين، بأنها مستهدفة أو مهمشة في الصيغة الجديدة للسلطة.

وعلى الرغم من محاولات الشرع التأكيد على شمولية مشروعه الوطني، فإن افتقار الدولة إلى أدوات فعالة لضمان العدالة الانتقالية والمساءلة، يجعل هذه المحاولات مجرد

إشارات رمزية في نظر الكثير من السوريين.

غياب نظام مالي شفاف، ومواصلة النخب القديمة التحكم في موارد الدولة يزيد من هشاشة المشهد الاقتصادي

ولا تزال التفاهمات مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في مراحلها الأولى، وما زالت المناطق الكردية تحتفظ بقدر من الاستقلال الفعلي، بما يعكس صعوبة إعادة توحيد البلاد تحت مظلة مؤسساتية واحدة.

وظلّ الأمن كذلك بعيد المنال، رغم بعض المؤشرات على تحسن جزئي في المدن الكبرى. فتنظيم داعش، وإن فقد معظم قوته، لا يزال يحتفظ بخلايا نشطة في مناطق البادية، ويشن هجمات بين الحين والآخر تستهدف قوافل عسكرية أو تجمعات مدنية.

وتساهم هذه الهجمات، بالإضافة إلى الغارات الإسرائيلية المتكررة على مواقع عسكرية سورية يُعتقد أنها تابعة لإيران أو لحزب الله، في تأجيج حالة عدم الاستقرار وتُربك خطط الحكومة الجديدة لإعادة هيكلة الجيش وبناء جهاز أمني جديد.

ويعكس طرح فكرة انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد داعش رغبة الشرع في انتزاع شرعية دولية، وربما حجز مقعد لسوريا في المعادلات الإقليمية الجديدة، لكنه في المقابل يصطدم بتحفظات داخلية، حيث لا تزال قطاعات من الشارع السوري تتوجس من أي تعاون وثيق مع الولايات المتحدة أو القوى الغربية.

وتبدو المحاولة السورية الحالية لإعادة التموضع إقليميًا بمثابة قفزة فوق ألغام. وثمة مؤشرات على سعي حكومة الشرع لتقليص النفوذ الإيراني، وربما حتى فتح قنوات خلفية مع إسرائيل لضبط الحدود الجنوبية أو التوصل إلى تفاهمات أمنية.

وقد تفتح مثل هذه التوجهات، إن صحّت، المجال أمام دعم عربي ودولي أوسع، لكنها في الوقت ذاته تحمل مخاطر سياسية كبيرة على الصعيد الداخلي، حيث يمكن أن تُفسر باعتبارها تنازلات مجانية على حساب السيادة الوطنية.

محاولات بناء الدولة تبدو وكأنها عملية تنقيب عن الاستقرار في حقل من الركام

ويشكل هذا التوازن الدقيق بين الواقعية السياسية والاعتبارات الوطنية معضلة مركزية في صياغة سياسة خارجية سورية جديدة بعد عقود من العزلة والتحالفات الأيديولوجية الجامدة.

ومع كل ما سبق، لا يمكن إنكار وجود مؤشرات، ولو محدودة، على أن مرحلة جديدة قد بدأت في سوريا. مجرد رحيل النظام السابق، الذي ارتبط لعقود بالقمع والتصلب والفساد، أزال حاجزا نفسيا كبيرا لدى قطاعات واسعة من السوريين. إذ هناك تعطّش إلى تجربة سياسية جديدة، حتى وإن اتسمت بالحذر والتجريب.

وعلى الأرض تظهر مبادرات محلية للعدالة الاجتماعية، وبدأت بعض البلديات في تنظيم انتخابات محلية، فيما تسعى مؤسسات المجتمع المدني إلى لعب دور أكبر في الرقابةوالمساءلة.

لكن الأمل وحده لا يكفي، والتحديات أمام حكومة أحمد الشرع جسيمة. والمطلوب ليس فقط استعادة السيطرة الأمنية أو إعادة تشغيل مؤسسات الدولة، بل إعادة بناء عقد اجتماعي جديد يعترف بكل مكونات الشعب السوري، ويضمن حقوقها ويحقق التوازن بين الهوية الوطنية والانتماءات المحلية.

ولا تزال العدالة الانتقالية، وهي الملف الأكثر حساسية، بعيدة عن الطرح الرسمي، رغم الحاجة الملحة لها لتضميد جراح الماضي وبناء ثقة مستدامة. كذلك، فإن إعادة إعمار سوريا لن تكون ممكنة من دون تسوية سياسية شاملة تفتح الباب أمام الدعم الدولي، وتضع حداً لحالة الانقسام والتنازع الداخلي.

وتقف سوريا اليوم في مفترق طرق حاسم. فالبلاد خرجت من نفق مظلم، لكنها لم تصل بعد إلى الضوء الكامل. والطريق إلى الاستقرار لا يزال طويلاً ومعقدًا، ويحتاج إلى إرادة سياسية صلبة، ورؤية وطنية جامعة، وشراكة حقيقية بين الدولة والمجتمع.

وتملك حكومة الشرع فرصة نادرة لتغيير المسار، لكنها ستُختبر في كل محطة: في قدرتها على كسب ثقة السوريين، وفي مهارتها في التعامل مع التحديات الإقليمية، وفي صدق نيتها بقطع الطريق أمام عودة الاستبداد بأشكال جديدة. فإما أن تنجح في كتابة بداية جديدة لسوريا، أو تخسر هذه اللحظة التاريخية لصالح المزيد من الفوضى والانقسام.

6