"أن تنجو لتشهد".. شهادة فنية تشكيلية تحفظ ذاكرة الفلسطينيين

معرض الفنان الفلسطيني مروان نصار يتنقل بين مجموعة من الأعمال الفنية تروي كل منها حكاية وسط الحرب والدمار.
الثلاثاء 2025/08/26
فن يمهد لدراسة تأثيرات الحروب على الفلسطينيين

رام الله (الضفة الغربية)- لا ينظر الفنان إلى الحروب والصراعات والكفاح من أجل البقاء نظرةَ العامة، وإنما هو يملك حساسية مفرطة تجاه الوجع الإنساني، ولا يملك إلا أن يوثق ما تلتقطه عيناه ويحرر كل ما تخزنانه عبر أعمال فنية صادمة ومبهرة في الآن نفسه، ومن هؤلاء الفنانين يبرز الفنان الفلسطيني مروان نصار الذي اختار أن يعيد تجسيد يوميات الحرب على قطاع غزة في معرضه “أن تنجو لتشهد” الذي انطلق السبت في غاليري باب الدير في رام الله.

وعمل القائمون على المعرض، الذي يستمر حتى الثلاثين من سبتمبر القادم، على طباعة 62 نسخة من لوحات الفنان المتواجد في قطاع غزة، والتي رسمها على وقع أهوال الحرب.

وقال نصار في كلمة مسجلة بمناسبة افتتاح المعرض “هذه اللحظة ليست مجرد افتتاح لمعرض فني بل هي شهادة حية على معنى النجاة وعلى قدرة الفن على حفظ الذاكرة.”

وأضاف بالتزامن مع ما بدا أنه صوت طائرة استطلاع يتداخل مع صوته “عنوان المعرض الفني ‘أن تنجو لتشهد’ ليس عنوانا فحسب بل اعتبره فعلا يوميا نعيشه وجرحا مفتوحا نحاول أن نحوله إلى أثر بصري يقاوم النسيان.”

ويمكن لزائر المعرض أن يتنقل بين مجموعة من الأعمال الفنية على لوحات صغيرة بألوان متعددة يظهر في بعضها البحر والإنسان والحيوان وتروي كل منها حكاية وسط الحرب والدمار.

وقال نصار “هذه الأعمال التي أمامكم ولدت من قلب التجربة والصدمة والانتظار وفقدان الأحبة ومن التمسك بالحياة في أكثر لحظاتها خوفا وهشاشة. الفن هنا ليس ترفا بل ضرورة للبقاء وهو محاولة لترميم المعنى وسط الخراب وفتح مساحة للتأمل والحوار ولكي نتشارك إنسانيتنا بعيدا عن الحدود.”

ولد نصار (41 عاما) في غزة وتخرج في كلية الفنون الجميلة بجامعة الأقصى وله العديد من المعارض الفردية كما شارك في معارض جماعية محليا وعربيا.

وبدا الرجل قلقا من مستقبل مجهول ينتظره كما حال أهل غزة مع استمرار الحرب في عامها الثاني.

وقال في كلمته المسجلة “أهلي وأصدقائي المخلصون للفن والهوية الفلسطينية أبعث إليكم هذه الرسالة وما زال المصير مجهولا لا أعرف ولا نعرف كم تبقى من أعمارنا ولا معنى النجاة إن عشنا بعد هذه الحرب.”

وأضاف “الجرح كبير والندوب عميقة لكن فرصتي الوحيدة للشعور بالتجربة هو هذا الفعل الفني وهذا الحدث الذي يحمل رسالتي عبر اللون. لن أطيل الحديث فربما تجدون بقية كلماتي في الأعمال المعروضة أمامكم.”

وفي كتيّب المعرض يتساءل الفنان “ما هو مفهوم النجاة في سياق هذه الحرب؟ هل كل من بقى على قيد الحياة نجا؟ وهل كل من طالته يد الإبادة مضى؟ “مضيفا “كفنان وأب أعيش في غزة، وسط إبادة جماعية لم تترك، على مدار سبعمئة يوم، شكلاً من أشكال الموت إلا وجربته؛ إبادة تطال البشر والتاريخ، وتدمر أحياءً وحياة ضاربة في أعماق الزمن، أبعث بهذه الرسالة إلى كل إنسان حر في هذا العالم، لا لمن خذلونا، ولا لمن باعوا ضميرهم، بل لأصحاب القلوب الرحيمة، وللأحرار فقط.”

ويضيف “في الحقيقة، وسط هذا الخراب، شعرتُ بأن كل أشكال التعبير سقطت: الكتابة، والأدب، وكل أشكال الفنون بدت عاجزة أمام هول المأساة.. ثمة فجوة هائلة بين ما يحدث فعلياً وما يمكننا تمثيله أو التعبير عنه. ومع ذلك، وكما قلت غير مرّة، بقينا نحاول اقتناص لحظة نجاة عبر الفعل الثقافي والفني، أن ننجو، لنَشهَد، ونُشهِد.”

ويرى نصّار أنه “يمكن للتعبيرات الفنية والأدبية التي ظهرت خلال هذه الحرب أن تشكل لاحقاً أرضية لدراسات وأبحاث، تضيء على الأثر النفسي العميق الذي طال كل فنّان وكاتب حاول أن يجد نافذة للتعبير، وسط القتل والمجاعة والحرمان.”

من جانبها قالت رلى دغمان، مديرة غاليري باب الدير الواقع في بناية قديمة من مباني مدينة رام الله، إن “الهدف من المعرض أن نستمر في رواية الحكاية الفلسطينية مع جميع الفنانين الفلسطينيين.”

وأضافت “عملنا هذا المعرض بالتعاون مع منصة آرت زون الفلسطينية، ومهم أن تظل غزة جزءا منا ونشتغل منها وننقل هذه التجربة وننقل صوت الفنان.”

وأوضحت رلى أن أهمية المعرض “تكمن في إنتاج أعمال فنية تحت الإبادة… والبعد النفسي لهذه الأعمال أو عنوان المعرض وأرشفة وتوثيق الحرب في غزة من خلال ريشة الرسام.”

وبحسب نشرة المعرض فإن آرت زون – فلسطين هي “منصة ثقافية رقمية مستقلة تسعى للتأمل في صيرورة الفنون البصرية الفلسطينية.”

وتضيف النشرة أن ذلك يأتي “عبر رصد تجارب فنية متعددة ولاسيما تلك التي تم تهميشها في ظل المنظومة الثقافية والفنية المهيمنة، أو تلك التي أبيدت أو دمرت أو صودرت من قبل قوى الاحتلال الاستعماري، من خلال تسليط الضوء عليها بقصد استعادة وجودها المفقود عمدا.”

وكتب الشاعر الفلسطيني محمود أبوهشهش في نشرة المعرض “كل يوم يفلت الفنان فيه من قبضة الإبادة، لا يكف فيه عن مواصلة فعل شهادته على واقع قيامي وحياة تترنح ما بين ضربات القتل والموت والدمار، والإشارات الأخيرة للمعنى الكامن في فعل النجاة والشهادة.”

ويضيف “ففي لوحاته الكثيرة التي لم ينقطع عن إنتاجها في صراعه من أجل القبض على عنف الواقع وهشاشته في آن، يتخذ فيها الإنسان بأطواره المختلفة، نازحا مكسورا كان، أو صيادا يصارع ضيق البحر ورعبه، أو جريحا، أو شهيدا، أو شاهدا، كبيرا أو صغيرا، مركزية لافتة إلى جانب حضور خفيف للكائنات القليلة.”

ويتابع أبوهشهش حديثه عن لوحات المعرض قائلا “يظهر الحمار الذي يبدو مسالما في كل أطوار الحرب وفوضاها وعنفها، كموتيف يواصل حضوره الذي يبدو مدعاة للطمأنينة، ومبعثا لشيء من الأمان وللتوازن للفنان نفسه، كما يحضر الطائر، عصفورا كان أم حمامة، ككائن حميم ومرغوب بخصوره لا يبارح الكثير من تخطيطاته.”

ويرى أبوهشهش أن نصار “لا يكف عن تغيير تموضعه في المكان، وبالتالي تغيير منظوره الذي يأخذ أحيانا شكل التحديق القريب في المشهد عن قرب فيما يشبه النظر في عدسة محدبة، وأحيانا القبض عليه من عين الطائر، أو ربما من عدسة طائرة الكوادكابتر المحدقة في ضحاياها وأهدافها الوشيكة، ما يجعل المشهد يبدو هشا وفي دائرة الاستهداف.”

ويضيف “أحيانا يترك الفنان تلك المسافة التي تشفُّ عن شيء من الاسترخاء، كأنه يجلس على مقعد بهدوء، ويمارس تأملاته في المشهد.”

14