أزمة الثقة بين دمشق والأكراد: هل هناك فرصة للحل

الانقسامات المتجذرة بين الحكومة المركزية وقوات سوريا الديمقراطية عقبة أمام مشروع إعادة بناء الدولة السورية.
السبت 2025/08/23
اتفاق هش

دمشق - تشهد سوريا اليوم أزمة سياسية دقيقة، تعكس عمق الانقسامات المتجذرة بين الحكومة المركزية في دمشق وقوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية (قسد).

وباتت هذه الأزمة، التي تمثل امتدادا لصراعات طويلة الأمد، تشكل عقبة حقيقية أمام أي مشروع لإعادة بناء الدولة السورية أو تحقيق تسوية شاملة.

وبعد سنوات من النزاع، جاءت مرحلة ما بعد بشار الأسد محمّلة بآمال التغيير، إلا أن واقع ما بعد الحرب أظهر أن الصراعات على السلطة والتباينات الإثنية والطائفية لا تزال فاعلة بقوة.

ورفع الرئيس أحمد الشرع، الذي تسلم الحكم في ديسمبر الماضي، شعارات الوحدة الوطنية وإعادة بسط سيادة الدولة على كامل الأراضي السورية، لكنه سرعان ما اتبع نهجًا مركزياً، معززًا قبضته على مفاصل الدولة، ومهمشًا مطالب المكونات الأساسية، وفي مقدمتها الأكراد.

لا تزال هناك فرصة واقعية للحل إذا ما توفرت إرادة سياسية ووساطة دولية تبتعد عن الانحياز وتتبنى مقاربة شاملة

وعلى الرغم من التوصل إلى اتفاق أولي في مارس 2025 برعاية أميركية، تضمّن تبادلًا للأسرى وسحبًا جزئيًا للقوات، فإن بنود الاتفاق المتعلقة بالحقوق الثقافية والسياسية للأكراد لم تجد طريقها إلى التنفيذ، وهو ما أدى إلى تصاعد التوتر من جديد.

وفي ظل هذا السياق، وصلت العلاقات بين الطرفين إلى طريق مسدود، تجلى في إلغاء مؤتمر باريس في أغسطس، الذي كان يُفترض أن يعيد إطلاق الحوار. لكن التدخلات الإقليمية، لاسيما التركية منها، أجهضت تلك الجهود، حيث تمارس أنقرة ضغوطًا كبيرة على دمشق لعدم تقديم أي تنازلات قد تعزز من وضع الأكراد.

وبالنسبة لتركيا، تُعد وحدات حماية الشعب الكردية امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، وهو ما يجعل من أي مكسب سياسي أو عسكري لقسد تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.

وفي المقابل، تتمسك دمشق بموقفها الرافض لبقاء أي قوة مسلحة خارج سلطة الجيش الرسمي، وتشترط دمج عناصر قسد كأفراد في الجيش لا ككتلة عسكرية قائمة بذاتها، فيما ترى قوات سوريا الديمقراطية أن الحفاظ على هيكليتها المستقلة يمثل ضمانة حقيقية لحماية المناطق الكردية وسكانها، في ظل انعدام الثقة بالسلطات المركزية، والخوف من تكرار انتهاكات ماضية، لاسيما بحق الأقليات.

وتُضاف إلى هذا المشهد الحساس حالة الهشاشة الأمنية التي تعيشها مناطق شمال وشرق سوريا، والتي تتقاطع فيها مصالح فاعلين محليين وإقليميين، على رأسهم تركيا، التي تهدد بالتدخل العسكري في حال شعرت بأن هناك خطوات تقود إلى استقلال فعلي للأكراد.

وأما دمشق، فهي تحاذر من تقديم أي نموذج للحكم الذاتي، خشية انتقال المطالب إلى مكونات أخرى مثل الدروز أو العلويين، ما قد يفتح الباب أمام إعادة إنتاج مشروع التقسيم من بوابة “الفدرلة.”

لكن ورغم هذا الانسداد، لا تزال هناك فرصة واقعية للحل إذا ما توفرت إرادة سياسية لدى الطرفين، ووساطة دولية تبتعد عن الانحياز وتتبنى مقاربة شاملة.

وقد يشكل الاعتراف بحقوق الأكراد ضمن إطار الدولة السورية الموحدة، وتقديم ضمانات أمنية ومؤسسية، حجر الأساس لأي حل مستدام. كما أن ضبط التدخلات الخارجية، خصوصًا من قبل أنقرة، سيكون ضروريًا لتوفير مساحة تفاوض حقيقية بعيدة عن التهديد والابتزاز السياسي.

وتتجاوز الأزمة بين دمشق وقسد الخلاف على توزيع الصلاحيات أو السيطرة على الأرض، فهي في جوهرها تعبير عن غياب الثقة وغياب التفاهم التاريخي بين المركز والأطراف.

ما حدود هذا التوافق
ما حدود هذا التوافق

ويعكس تاريخ العلاقة بين دمشق والأكراد ليس فقط سلسلة من التوترات، بل فشلًا طويل الأمد في بناء دولة جامعة تعترف بالتنوع وتحمي الحقوق دون أن تخشى من تهديد الهوية أو السيادة. فالأزمة الراهنة ليست سوى امتداد لهذا الفشل، وفرصة جديدة—وربما أخيرة—لاستدراك ما فات.

ولن يكون بناء مستقبل مشترك ممكنًا دون إعادة الاعتبار للتاريخ، وتصحيح المظالم المتراكمة، والاعتراف بأن الأكراد ليسوا مجرد “مشكلة أمنية”، بل شريك أساسي في سوريا المستقبل.

وبغياب حل عادل وشامل، فإن سوريا تبقى مهددة بالعودة إلى دائرة العنف والصراع المفتوح.

وأما النجاح في احتواء الأزمة، وبناء أسس جديدة للشراكة الوطنية، فسيكون بداية ضرورية لمسار طويل من التعافي وإعادة الإعمار، واستعادة دولة لم تعرف الاستقرار منذ أكثر من عقد.

ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تبنى الأكراد في البداية موقفًا حذرًا؛ لم ينخرطوا بقوة في الانتفاضة الشعبية، لكنهم استفادوا من انسحاب النظام الجزئي من المناطق الكردية في 2012، ليملأوا الفراغ السياسي والأمني من خلال “وحدات حماية الشعب” التي أصبحت لاحقًا نواة قوات سوريا الديمقراطية.

وبدعم أميركي مباشر في إطار الحرب على داعش، سيطرت قسد على نحو ثلث الأراضي السورية في الشمال والشرق، بما في ذلك مدن رئيسية كالرقة والحسكة ومنبج، ومناطق غنية بالنفط والموارد الطبيعية.

وخلال هذه الفترة، طوّر الأكراد نظامًا للإدارة الذاتية يُركّز على اللامركزية، والمساواة بين الجنسين، والتمثيل الإثني المتعدد، في نموذج مخالف كليًا للنظام السياسي في دمشق.

وزاد هذا التوسع العسكري والإداري من قلق النظام السوري، الذي لم يتقبل وجود كيان سياسي وعسكري موازٍ داخل حدوده، وإن كان قد تجنب الدخول في صراع مفتوح مع قسد، مفضلًا تكتيك الانتظار وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة، دون تقديم أي تنازلات جدية.

7