السودان: خطاب البرهان ورفض التحول المدني

رفْض البرهان لما يسميه "حكومة مفروضة" ليس سوى رفض مستتر لأي تسوية سياسية لا تضمن له الاستمرار في السلطة، وكأن السودان ملكية حصرية للمؤسسة العسكرية لا وطن يتسع لجميع أبنائه.
الثلاثاء 2025/07/22
حين يتحدّث الانقلابي باسم الشعب

تضج الأسافير وبعض الصحف الإلكترونية السودانية هذه الأيام بخبر مفاده أن قائد الجيش ورئيس السلطة الانقلابية، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، قد خاطب مؤتمرًا لدعم التعليم في دارفور، عُقد في مدينة بورتسودان يوم 13 يوليو 2025، شن خلاله هجومًا لاذعًا على الاتحاد الأفريقي ومنظمة “إيغاد”، متهمًا إياهما بالتدخل في الشأن السوداني، ومعلنًا رفضه لأي مبادرة خارجية تهدف إلى إنهاء الحرب أو إعادة السلطة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الشرعي للثورة، الدكتور عبدالله حمدوك، ومطالبًا من يرغب في الحكم بـ”القتال مع السودانيين”.

وبما أن الخطاب المزعوم ينسجم مع أسلوب الفريق البرهان الانفعالي، ويعكس عداءه العميق لفكرة الدولة المدنية وخوفه المزمن من ثورة ديسمبر، فقد صدقه كثيرون وظنوا أنه قد قيل فعلاً في التاريخ المذكور. غير أن الحقيقة أن البرهان وجه بالفعل تلك الاتهامات للاتحاد الأفريقي و”إيغاد”، وهاجم الدكتور حمدوك ومن وصفهم بـ”عملاء الخارج”، لكن ذلك كان في مناسبة سابقة -خلال مؤتمر حول التعليم الإلكتروني والبنية التحتية التقنية في دارفور، عُقد في بورتسودان يوم 17 فبراير 2025، أي غداة القمة الأفريقية الثامنة والثلاثين التي التأمت في أديس أبابا يومي 15 و16 فبراير 2025.

وقد أعادت تلك القمة تأكيد تجميد عضوية السودان، مشروطة بوقف الحرب واستئناف مسار التحول المدني الديمقراطي، وهو ما شكل صفعة سياسية ودبلوماسية للسلطة العسكرية التي ظلت تروج لاختراق إقليمي يعيدها إلى الواجهة.

وإذا كان الخطاب قد استُدعي مجددًا من الذاكرة الرقمية، فإن اللافت فيه -وفي خطابات البرهان كافة- ليس عداؤه المتزايد للمجتمعين الإقليمي والدولي فحسب، بل نبرته التضليلية حين يتحدث عن الحكم وكأنه رئيس منتخب بإرادة شعبية. فالجنرال الذي قاد انقلابًا عسكريًا في أكتوبر 2021 على حكومة مدنية جاءت بها تضحيات ثورة ديسمبر، يتحدث عن “الشعب السوداني” و”حقه في اختيار من يحكمه”، متجاهلاً أن هذا الشعب نفسه خرج في مواكب مليونية رافضة لانقلابه، وواجه آلة القمع والتنكيل، وارتقى مئات الشهداء في سبيل استرداد الحكم المدني.

◄ التجربة أثبتت -مرارًا- أن الحكم العسكري في السودان لا يجلب سوى الخراب والدمار والتبعية. وما يفعله البرهان اليوم من رفض لجميع المبادرات، وتجاهل لأصوات الملايين من السودانيين، لا يمكن أن يفضي إلى سلام أو استقرار

إنها مفارقة فجة أن يصف البرهان قوى الثورة ورموزها الوطنية -وعلى رأسهم الدكتور عبدالله حمدوك- بـ”عملاء الخارج”، بينما هو نفسه يستند إلى دعم إقليمي يسعى لإبقاء الحكم العسكري في السودان، حفاظًا على مصالحه الإستراتيجية، وتحويل البلاد إلى ساحة نفوذ ومحاور، لا إلى دولة مستقلة الإرادة.

أما ما نُسب إليه من قوله إن من يريد الحكم “عليه أن يقاتل مع السودانيين”، فهو تصريح يفضح العقلية الانقلابية التي ترى في البندقية مصدرًا للشرعية، لا في الانتخابات، ولا في التوافق المدني، ولا حتى في الشرعية الثورية. وقد أكد هذا المنطق لاحقًا حين سخر من ثورة ديسمبر قائلا “المجد للبندقية، لا للساتك” -جملة تختصر كل ما يضمره من عداء للمدنية واستخفاف بالتضحيات.

أما رفضه لما يسميه “حكومة مفروضة” فليس سوى رفض مستتر لأي تسوية سياسية لا تضمن له الاستمرار في السلطة، وكأن السودان ملكية حصرية للمؤسسة العسكرية، لا وطن يتسع لجميع أبنائه، ولا دولة يجب أن تُدار بإرادة شعبها.

وقد بدا جليًا أن البرهان يستنكر على الاتحاد الأفريقي موقفه الصارم ضد الانقلابات، في حين أن هذا الموقف يعد من أبرز إنجازات المنظمة القارية، وقد أسهم فعلاً في تقليص الانقلابات التي لطالما شكلت أحد أبرز معوقات الاستقرار والتنمية في أفريقيا. والإصرار على هذا المبدأ يمثل اليوم أحد التحديات الجوهرية للاتحاد، في سعيه لتعزيز الحوكمة الرشيدة والديمقراطية على امتداد القارة.

أما ادعاء البرهان الحديث باسم “الشعب السوداني” فيثير السؤال الجوهري: من هو هذا الشعب الذي ينطق باسمه؟ هل هو رفاقه في اللجنة الأمنية للنظام البائد؟ أم هو فلول الحركة الإسلامية التي تتطلع إلى العودة عبر فوهة البندقية؟ إن هذا الادعاء -بينما تُقصف المدن، ويُعتقل الناشطون، ويُقتل الأبرياء- ما هو إلا تجسيد فج لما يسميه السودانيون ساخرين “قوة العين”: الوقاحة في تجاوز المنطق والحياء دون خجل أو تردد.

لقد أثبتت التجربة -مرارًا- أن الحكم العسكري في السودان لا يجلب سوى الخراب والدمار والتبعية. وما يفعله البرهان اليوم من رفض لجميع المبادرات، وتجاهل لأصوات الملايين من السودانيين، لا يمكن أن يفضي إلى سلام أو استقرار، بل إلى مزيد من التشرذم والانهيار.

لكن التاريخ لا يسير إلى الوراء، والوعي الشعبي الذي فجر ثلاث ثورات في وجه العسكر لن يقبل مجددًا بحكم البندقية، مهما طال أمد القتال، ومهما تغيرت الأقنعة والشعارات.

9