وضع لبنان أمام مسؤولياته.. في مواجهة إسرائيل

لبنان لم يعد يستطيع الهرب من مسؤولياته طويلا، خصوصا أن الأحداث كشفت أن لا فائدة تذكر من استمرار وجود القوة الدوليّة ما دامت هناك قوى أمر واقع على أرض الجنوب.
الاثنين 2025/09/01
قوة دوليّة لم تتجاوز دور الوسيط

لا معنى للقرار الذي اتخذه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالتمديد للقوة الدوليّة في جنوب لبنان مرّة أخيرة، سوى وضع لبنان في مواجهة مباشرة مع إسرائيل. سيكون سؤال المرحلة المقبلة، مرحلة الإعداد لانسحاب القوة الدولية من جنوب لبنان، ما طبيعة العلاقة التي ستربط لبنان بإسرائيل في غياب القوة الدولية التي كانت بمثابة وسيط بين البلدين وذريعة لتفادي المفاوضات المباشرة.

كان مفروضا على لبنان تفادي مثل هذه المفاوضات المباشرة وذلك كي يكون هناك من يتفاوض باسمه. من تفاوض من أجل رسم الحدود البحرية مع إسرائيل، على حساب لبنان كان إيران. كان عهد ميشال عون – جبران باسيل بمثابة عهد “حزب الله”.

هرب لبنان طويلا من هذا الاستحقاق، استحقاق التعاطي بطريقة أو بأخرى مع إسرائيل. سيتوجب عليه التعاطي مع هذا الاستحقاق القديم – الجديد عاجلا أم آجلا في حال كانت لديه رغبة في استعادة قراره السياسي المستقلّ. هذا القرار الذي فقده تدريجيا، انطلاقا من الجنوب، عندما أُجبر البلد على توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1969. وقتذاك تخلّى لبنان، بموجب الاتفاق، عن سيادته على جزء من أرضه من أجل تمكين “الفدائيين” الفلسطينيين من شنّ هجمات على إسرائيل.

لم تستطع القوة الدوليّة (UNIFIL) تجاوز دور الوسيط بعدما عمل المسلحون الفلسطينيون حتّى العام 1982 كلّ ما في قدرتهم عمله من أجل منعها من تأدية المهمة التي جاءت من أجلها. في مرحلة لاحقة جاء دور “حزب الله” الذي قيّد تحركات الجنود الدوليين. لا يزال الحزب، إلى يومنا هذا، يفعل ذلك عن طريق “الأهالي” بغية تأكيد أن جنوب لبنان، بل لبنان كلّه لا يزال ورقة إيرانيّة لا أكثر.

لم تؤد هذه القوّة المهمة التي وجدت من أجلها، لا في المرحلة التي انتشرت فيها في جنوب لبنان في العام 1978 ولا في مرحلة ما بعد تعزيزها في ضوء صدور القرار الرقم 1701 إثر حرب صيف 2006.

كلّ ما في الأمر أنّه بات على لبنان تحمّل مسؤولياته بدل الهرب منها وبدل أن يكون الجنوب صندوق بريد بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل ثمّ بين سوريا وإسرائيل… ثمّ بين إيران وإسرائيل كما كانت عليه الحال قبل شنّ “حزب الله”، بصفة كونه أداة إيرانيّة معتمدة، “حرب إسناد غزّة” في الثامن من تشرين الأوّل – أكتوبر 2023.

◄ ليس قرار سحب القوة الدولية من جنوب لبنان سوى عنوان لمرحلة جديدة على الصعيدين اللبناني والإقليمي. تحتاج هذه المرحلة إلى التخلي عن سياسة التذاكي من جهة وفهم حقيقة الموقف الأميركي من جهة أخرى

وضعت إدارة دونالد ترامب، التي أصرّت على إنهاء مهمة القوّة الدوليّة ابتداء من نهاية 2026، لبنان أمام مسؤولياته. لم يعد لبنان يستطيع الهرب من هذه المسؤوليات طويلا، خصوصا أن الأحداث كشفت أن لا فائدة تذكر من استمرار وجود القوة الدوليّة معزّزة أو غير معزّزة ما دامت هناك قوى أمر واقع على أرض الجنوب.

كانت المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، في العام 1983، المحاولة الوحيدة التي بذلها لبنان من أجل استعادة المبادرة في الجنوب من جهة وعلى الصعيد الوطني من جهة أخرى. توجت هذه المحاولة بالتوصل إلى اتفاق17 أيّار في عهد الرئيس أمين الجميّل. سقط الاتفاق، الذي سيندم اللبنانيون عليه طويلا، تحت ضغط الشارع والسلاح على الرغم من موافقة مجلس النواب عليه. لن يتمكّن لبنان يوما من الحصول على أفضل من اتفاق 17 أيار. في الواقع، كانت هناك حرب سوريّة على الاتفاق بدعم من الاتحاد السوفياتي وكانت هناك لامبالاة إسرائيلية ببقاء الاتفاق أو سقوطه. يؤكد ذلك ربط الدولة العبريّة الانسحاب من جنوب لبنان عسكريا بالانسحاب السوري من الأراضي اللبنانيّة. عمليا، كان هناك تفاهم في العمق بين إسرائيل وحافظ الأسد في ما يخصّ أي اتفاق يخص لبنان وجنوبه.

الأهمّ من ذلك كلّه، كانت هناك سياسة أميركيّة متذبذبة لم تأخذ في الاعتبار غير ما تريده إسرائيل التي تخلت عن أهدافها في لبنان في ضوء اغتيال رئيس الجمهورية بشير الجميّل في 14 أيلول – سبتمبر 1982. ركّزت إدارة رونالد ريغان في العام 1982 على إعادة الحياة إلى لبنان. ما لبثت أن انسحبت منه ولم تعد لديها سياسة لبنانيّة، خصوصا مع نسف سفارتها في بيروت في نيسان – أبريل 1983 ثم تفجير مقر المارينز حيث قتل 245 عسكريا أميركيّا قرب مطار بيروت في 23 تشرين الأول – أكتوبر من تلك السنة.

واهم من يعتقد في النصف الثاني من 2025 أن في استطاعة الإدارة الأميركيّة الضغط على إسرائيل. إذا أكّدت حرب غزّة شيئا، فهي أكّدت أن مثل هذا الضغط غير وارد. كان المبعوث الأميركي توماس باراك صادقا في كلّ كلمة قالها عندما كشف أن لا انسحاب إسرائيليا من جنوب لبنان، ولا شيء آخر، قبل الانتهاء من نزع سلاح “حزب الله”. هذا ما أكده أيضا السناتور النافذ ليندسي غراهام الذي كان في بيروت مع الوفد الأميركي الذي زار لبنان أخيرا. لم يكذب برّاك على اللبنانيين الذين كانوا يتوهمون أن لا ثمن يتوجب دفعه في ضوء هزيمة “حزب الله” أمام إسرائيل والتغيير الذي شهدته سوريا. على العكس من ذلك، حاول باراك مع السناتور ليندسي ومورغان أورتيغوس إفهام اللبنانيين من كبيرهم إلى صغيرهم أن مرحلة التذاكي انتهت إلى غير رجعة مثل مرحلة سيطرة العلويين على سوريا.

ليس قرار سحب القوة الدولية من جنوب لبنان سوى عنوان لمرحلة جديدة على الصعيدين اللبناني والإقليمي. تحتاج هذه المرحلة إلى التخلي عن سياسة التذاكي من جهة وفهم حقيقة الموقف الأميركي من جهة أخرى. أقصى ما تستطيع أميركا عمله هو مساعدة اللبنانيين في حال قرر هؤلاء مساعدة أنفسهم أوّلا. يبدأ ذلك بالاعتراف بأن 17 أيار يمثل الاتفاق الذي يفترض أن يحلم به البلد مجددا في حال كان يريد انسحابا إسرائيليا مشروطا… في طبيعة الحال!

8