من "1337" إلى سلا: المغرب يصنع مستقبله بخوارزميات الذكاء وقوة الإرادة

رؤية واضحة تضع الإنسان في قلب الثورة الرقمية المقبلة.
الجمعة 2025/07/11
مصنع النخبة

في ظل التحولات العالمية المتسارعة نحو الرقمنة، يضع المغرب الذكاء الاصطناعي في صميم إستراتيجيته التنموية. من خلال مقاربات شاملة تجمع بين الاستثمار في الكفاءات والبنية القانونية وتأسيس نموذج اقتصادي أكثر عدالة واستدامة.

الرباط- لا يمكن تناول سبل مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية اليوم بمعزل عن التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي. فهذان العنصران لم يعودا ترفًا معرفيًا أو خيارًا مؤجلًا، بل أصبحا ضرورة ملحّة لأي دولة تطمح لدخول القرن الحادي والعشرين بثقة ورؤية مستقلة. وإذا كانت بعض الدول لا تزال تتلمّس طريقها في هذا المجال، فإن المغرب، من خلال الديناميكية الوطنية المتسارعة، يبدو قد أدرك مبكرًا أن الاعتماد على الاقتصاد الريعي والاكتفاء بحل أزمة الغذاء لا يكفيان لضمان مستقبل مستدام.

المناظرة الوطنية الأولى حول الذكاء الاصطناعي، التي انعقدت مؤخرًا بمدينة سلا، شكّلت محطة مفصلية في هذا التحول. فقد عبّر رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، عن قناعة راسخة بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تقنية، بل بات محرّكًا إستراتيجيًا لتحول جذري في منظومة الاقتصاد والمجتمع. هذا التحول لا يقتصر على تحسين الإنتاجية وتحديث الإدارة، بل يتجاوز ذلك ليشمل ملفات السيادة الرقمية، العدالة الاجتماعية، وحماية المعطيات الشخصية.

ورغم وجاهة هذا الطموح، فإنه لا يخلو من تحديات ومعوقات عميقة. أولها وأكثرها تعقيدًا يتمثل في ضرورة تجاوز العقبات المؤسسية والثقافية التي تعرقل إدماج الذكاء الاصطناعي ضمن البنى الإدارية والتعليمية والاقتصادية. فمهما بلغت التكنولوجيا من تطور، فإنها لن تُحدث الأثر المطلوب ما لم تندمج ضمن رؤية وطنية شاملة، تتقاطع فيها السياسات العمومية مع تطلعات المجتمع، وتُترجم إلى برامج قابلة للتطبيق.

ينطلق التحدي الأول من ضرورة تأهيل الموارد البشرية. فكما أجمعت مداخلات المشاركين في المناظرة، لا معنى للحديث عن الذكاء الاصطناعي دون الاستثمار في الكفاءات البشرية المؤهلة. وفي هذا السياق، تمثل المبادرة الحكومية الهادفة إلى تدريب 100 ألف شابة وشاب في المجال الرقمي بحلول عام 2030، وتوفير نحو 240 ألف فرصة عمل، خطوة طموحة تستدعي متابعة دقيقة وربطًا وثيقًا بين مخرجات التكوين واحتياجات السوق. فالفجوة بين التعليم وسوق العمل ما تزال قائمة، وقد يكون الذكاء الاصطناعي فرصة إستراتيجية لسدّها، بشرط حسن استثماره.

1337

تقدم نموذجًا مرنًا وعمليًا يُعلي من قيمة التعلّم الذاتي ويستجيب لمتطلبات سوق العمل

أما التحدي الثاني، فيتعلق بالبنية التحتية الرقمية والطاقة. فكما نبهت وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، ليلى بنعلي، لا يمكن تصوّر طفرة في الذكاء الاصطناعي دون توفر طاقة مستدامة وموثوقة. فمراكز البيانات والخوادم التي تشكل العمود الفقري لهذا التحول تحتاج إلى دعم طاقي منتظم. والمغرب، بما يملكه من إمكانيات في مجال الطاقات المتجددة، يبدو مهيّأً ليصبح قطبًا تكنولوجيًا إقليميًا، شريطة تسريع وتيرة الاستثمار في هذا المجال الحيوي.

أما التحدي الثالث، فيكمن في الإطار القانوني والأخلاقي. فالتكنولوجيا، كما أشار هشام الهبطي، رئيس جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية، لا يمكن فصلها عن منظومة القيم الإنسانية. إن دمج الذكاء الاصطناعي في السياسات العمومية يجب أن يخضع لإطار ديمقراطي يضمن الشفافية، ويمنع الانزلاق نحو المراقبة المفرطة أو التحيّز الخوارزمي. وتبرز هنا الحاجة إلى تشريعات مرنة تواكب التطور السريع، دون أن تكبل الابتكار أو تنتهك الحقوق الفردية.

ولا يمكن تجاوز التحدي الثقافي والمجتمعي، فهو أساس كل تحول. فنجاح أي إستراتيجية رقمية لا يتوقف عند توفر البنية التحتية والتشريعات، بل يعتمد على مدى تقبّل المجتمع نفسه لهذا التحول. وهنا تلعب التوعية دورًا جوهريًا. إذ ينبغي للمواطن المغربي أن يدرك أن الذكاء الاصطناعي ليس تهديدًا لوظيفته أو خصوصيته، بل أداة لتحسين جودة حياته في مجالات متعددة كالصحة، والتعليم، والنقل، بل وحتى في محاربة ظواهر اجتماعية مركبة مثل التسرب المدرسي، كما أشار وزير التربية والتعليم، محمد سعد برادة.

الجانب الآخر، تظهر فرص واعدة تبشّر بإمكانية البناء الفعلي. وتُعدّ مدرسة البرمجة المغربية “1337” مثالًا حيويًا لذلك. فهذه المدرسة أثبتت قدرتها على تأهيل مواهب شبابية في مجالات التكنولوجيا، وتُقدم نموذجًا قابلًا للتوسع. كما أن تنظيم المغرب لمونديال 2030 يوفّر فرصة إستراتيجية لتوظيف الذكاء الاصطناعي في مجالات حيوية، من الأمن والنقل إلى السياحة والخدمات التفاعلية.

المدرسة “1337” لا تحمل اسمًا عشوائيًا، بل رقمًا رمزيًا ذا دلالة عميقة في ثقافة المبرمجين، حيث يُقرأ “1337” بلغة “Leet Speak” على أنه “LEET”أي “النخبة.” هذا الاختيار يعكس فلسفة المدرسة القائمة على تكوين نخبة رقمية مغربية قادرة على المنافسة عالميًا، دون أن تكون النخبة حكرًا على أصحاب الشهادات أو الامتيازات الطبقية.

100

ألف شابة وشاب سيتم إعدادهم في المجال الرقمي بحلول 2030 وتوفير 240 ألف فرصة عمل

تكمن أهمية المدرسة الاقتصادية في دورها الحيوي لسدّ فجوة المهارات الرقمية، وهي فجوة تُعاني منها معظم دول الجنوب. فمع تصاعد الطلب على مطوري البرمجيات ومهندسي الذكاء الاصطناعي، بات من الواضح أن الجامعات التقليدية عاجزة عن تلبية هذا التوجه. وهنا، تتدخل “1337” لتطرح نموذجًا مرنًا وعمليًا، يُعلي من قيمة التعلّم الذاتي ويستجيب لمتطلبات السوق.

الطلبة المتخرجون من هذه المدرسة لا يكتفون بالحصول على وظائف نوعية، بل يطلق الكثير منهم مشاريعهم الخاصة، ويؤسسون شركات ناشئة في مجالات متعددة، من التعليم الرقمي إلى الصحة الذكية. وهكذا تتحوّل المدرسة إلى حاضنة فعلية لريادة الأعمال، ومصدر ديناميكي لتحريك عجلة الاقتصاد الرقمي الوطني.

وقد جعلت جودة التكوين الذي توفره “1337” منها نقطة جذب بارزة للمستثمرين والشركات التكنولوجية، سواء المحلية أو الدولية. فالمغرب، من خلال هذه المبادرة، لا يكتفي باستهلاك التكنولوجيا، بل يُكوّن جيلًا قادرًا على إنتاجها وتطويرها بمهارات عالمية.

لكن الأثر الأعمق للمدرسة لا يُقاس بالأرقام أو الوظائف، بل بالتغيير الاجتماعي الذي تُحدثه. فالمؤسسة التعليمية مفتوحة مجانًا أمام الشباب من مختلف الفئات، دون تمييز على أساس الشهادات أو الوضع الاجتماعي، ويكفي للمتقدم أن يكون شغوفًا بالتعلم، مستعدًا للعمل الجاد، لينخرط في بيئة تعليمية متطورة، مزودة بأحدث التجهيزات، وتوفر له منحة شهرية تحفيزية.

بذلك، تُجسّد “1337” مفهوم العدالة الرقمية، حيث تتحول التكنولوجيا من مجال محصور إلى وسيلة تمكين للفئات المهمشة. وقد بدأت المدرسة بالفعل في تغيير مصائر مئات الشباب، الذين وجدوا فيها فرصة أولى أو ثانية لبناء مسارهم المهني والحياتي.

ورغم أن نسبة الإناث لا تزال محدودة، إلا أن المدرسة تعمل على تعزيز مشاركة الفتيات، ضمن رؤية شاملة للمساواة في الفرص الرقمية. فتمكين النساء في مجال التكنولوجيا لا يُعدّ فقط مطلبًا اجتماعيًا، بل يشكل ضرورة اقتصادية تنعكس على مستوى الابتكار وجودة الحلول الرقمية.

والمدرسة ليست جزيرة معزولة، بل جزء من إستراتيجية وطنية تروم جعل المغرب قطبًا إقليميًا للذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي. وقد عبّرت المناظرة الوطنية حول الذكاء الاصطناعي، التي التأمت مؤخرًا، عن إرادة سياسية حقيقية لتسريع هذا التحول، وفق مقاربة تجمع بين الفعالية والإدماج.

نجاح أي إستراتيجية رقمية لا يتوقف عند توفر البنية التحتية والتشريعات، بل يعتمد على مدى تقبّل المجتمع نفسه لهذا التحول

في هذا السياق، تبرز “1337” كلاعب محوري، لا في تكوين الكفاءات فحسب، بل في صياغة نموذج تعليمي جديد يواكب متطلبات العصر، ويستجيب لحاجيات السوق، ويُعزز قدرة الاقتصاد الوطني على مواجهة الأزمات بكفاءة.

ما يُميز المقاربة المغربية هو الوعي السيادي بأهمية الذكاء الاصطناعي كرافعة للتحول الوطني. فالمناظرة الوطنية لم تكن مجرد مناسبة تقنية، بل لحظة سياسية تؤكد أن المغرب لا يكتفي بالاستهلاك، بل فاعلًا في صياغة مستقبلها. وهذا يتطلب، كما جاء في شعار المناظرة، إستراتيجية فعالة وأخلاقية، تُبنى على العمل الجماعي، وتعبئة الطاقات، وتكامل الأدوار بين الدولة، القطاع الخاص، والمجتمع المدني.

في الختام، يمكن القول إن المغرب يسير في الاتجاه الصحيح، لكن الطريق لا تزال طويلة. الذكاء الاصطناعي ليس عصا سحرية، بل أداة تتطلب رؤية، تخطيطًا، واستثمارًا في الإنسان قبل الآلة. وإذا نجح المغرب في تجاوز التحديات التي تعترض هذا المسار، فإنه لا يضمن فقط مكانة في الاقتصاد الرقمي العالمي، بل يؤسس لنموذج تنموي جديد، أكثر عدالة، وأكثر قدرة على الصمود في وجه الأزمات.

12