سلوك إيران… هو الموضوع!

لن يحل أي مشكلة لإيران كلام من نوع ذلك الذي كتبه عراقجي وتطرق فيه إلى استعداد بلده لاعتماد موقف مرن في أي مفاوضات تستهدف التوصل إلى تسوية في شأن ملفّها النووي.
الأربعاء 2025/09/10
ٍ الخطاب الدبلوماسي في واد، والسلوك الإقليمي في واد آخر

من المفيد ملاحظة أنّ موضوع إيران وعلاقتها بالغرب أكثر تعقيدا بكثير من موضوع ملفها النووي الذي تريد استخدامه لرفع العقوبات المفروضة عليها. لم يعد الملف كافيا لرفع هذه العقوبات في وقت يمرّ الاقتصاد الإيراني في مرحلة حرجة تكشف فشل النظام في معالجتها.

لا يكفي الكلام المنمق كي تعود إيران دولة يتعامل معها العالم المتحضر، ممثلا بأميركا وأوروبا فضلا عن محيطها العربي، بشكل طبيعي. تكمن مشكلة “الجمهوريّة الإسلاميّة”، التي أقامها آية الله الخميني في العام 1979 بعدما نجح في احتكار السلطة وإبعاد الأطراف الأخرى المعارضة للشاه محمد رضا بهلوي، في أن الموضوع يتجاوز الملفّ النووي الإيراني إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.

منذ نجاح الثورة الإيرانيّة وقلب الشاه ورفع شعار “تصدير الثورة”، بات مطروحا موضوع سلوك إيران في المنطقة والعالم، وهو سلوك لم يعد ممكنا استمراره، خصوصا منذ تغيّرت إسرائيل كلّيا في ضوء “طوفان الأقصى”. لم تعد الدولة العبريّة قادرة على المضي في تفاهمات في العمق مع نظام الـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. لم يعد هناك تساهل إسرائيلي مع “حماس” وتركها تتحكّم بغزة في مقابل تكريس الانقسام الفلسطيني. استفاقت إسرائيل على أن استثمارها في “حماس” لم يكن في محلّه في ضوء انقلاب السحر على الساحر والهجوم الذي تعرضت له مستوطنات غلاف غزّة وأدى إلى مقتل نحو 1200 يهودي، معظمهم من الإسرائيليين كانوا في تلك المستوطنات يوم حصول “طوفان الأقصى” قبل 23 شهرا!

لن يفاوض أحد إيران على ملفها النووي بمعزل عن سلوكها أي عن ميليشياتها المذهبية التي هي أدوات لم يكن لديها من هدف في يوم من الأيام سوى تفتيت دول عربيّة

إلى ذلك، لم تعد إسرائيل تأخذ في الاعتبار “قواعد الاشتباك” مع “حزب الله” في جنوب لبنان وذلك منذ قرّر الحزب، بناء على طلب إيراني، فتح جبهة الجنوب. لم تعد إسرائيل، أيضا، مستعدّة للتعايش مع نظام أقلّوي في سوريا ضمنت بقاءه طوال عهدي حافظ الأسد وبشّار الأسد. بكلام أوضح، الأهمّ من ذلك كلّه أنّ الولايات المتحدة على تفاهم تام مع إسرائيل، وحتّى مع دولة مثل روسيا، على أنّه يستحيل القبول بقنبلة نووية إيرانيّة.

من هذا المنطلق، لن يحل أي مشكلة لإيران مع المجتمع الدولي كلام من نوع ذلك الذي كتبه وزير الخارجية الإيراني عبّاس عراقجي أخيرا في صحيفة “ذي غارديان” البريطانيّة وتطرق فيه إلى استعداد بلده لاعتماد موقف مرن في أي مفاوضات تستهدف التوصل إلى تسوية في شأن ملفّها النووي. من بين ما قاله عراقجي في المقال الذي خصّ به “ذي غارديان” أن بلده جاهز لصياغة اتفاق واقعي ودائم يتضمن رقابة صارمة وقيوداً على التخصيب (تخصيب الأورانيوم) مقابل رفع العقوبات”، مضيفاً أنّ “الفشل في اغتنام هذه الفرصة السانحة قد تكون له عواقب مدمرة للمنطقة وما بعدها على مستوى جديد كلياً.” أشار وزير الخارجية الإيراني إلى أنّه “إذا كانت أوروبا تريد حقاً حلاً دبلوماسياً، وإذا أراد الرئيس دونالد ترامب أن يركز على قضايا حقيقية، فعليهما منح الدبلوماسية الوقت والمساحة اللذين تحتاج إليهما للنجاح،” معتبرا أن “البديل من الدبلوماسية ليس جيداً”. لم يقدّم بالطبع أي فكرة عمّا سيكون البديل من الدبلوماسيّة وما تصوّر “الجمهوريّة الإسلامية” لهذا البديل الذي تحذر العالم منه!

بكلّ المقاييس والظروف، ليس مسموحا لإيران الحصول على سلاح نووي. لا أحد يصدّق أنّها لا ترغب في امتلاك القنبلة. مسألة الرقابة الصارمة على البرنامج النووي الإيراني مطروحة جدّيا، لا لشيء سوى لأن العالم لا يتحمّل وجود قنبلة إيرانيّة ستدخل دول المنطقة في سباق تسلّح وانتشار للسلاح النووي. لا يمكن أن تكون إيران دولة نووية وأن تبقى دولة مثل تركيا في وضع المتفرّج على مثل هذا التطور بالغ الخطورة.

لم تكن “الجمهوريّة الإسلاميّة” بعيدة عن “حماس” يوما. ستكشف الأيام وجود تنسيق بين جناح معيّن في الحركة وإيران في مرحلة الإعداد لهجوم “طوفان الأقصى” الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر 2023. عملت “الجمهوريّة الإسلاميّة” على استغلال “طوفان الأقصى” إلى أبعد حدود وصولا إلى دخولها مواجهة عسكريّة مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة التي قصفت ثلاثة مواقع نووية إيرانيّة في يونيو الماضي.

بكلّ المقاييس والظروف، ليس مسموحا لإيران الحصول على سلاح نووي. لا أحد يصدّق أنّها لا ترغب في امتلاك القنبلة

موضوع الملف النووي مشكلة كبيرة للعالم، لكن لا يمكن عزله عن سلوك إيران في المنطقة عبر أدواتها المعروفة وهي ميليشيات مذهبيّة موجودة في العراق ولبنان وكانت موجودة في سوريا.

لن يفاوض أحد إيران في شأن ملفها النووي بمعزل عن سلوكها وميليشياتها المذهبيّة، التي لا تزال تعمل في اليمن… وصواريخها الباليستية. كلّ ما في الأمر أن “الجمهوريّة الإسلاميّة” خاضت سلسلة حروب على هامش حرب غزّة معتقدة أنّها في منأى عن حرب ستتورط بها من نوع حرب الـ12 يوما مع إسرائيل. هناك عالم تغيّر. ليست إسرائيل وحدها التي تغيّرت وباتت أكثر وحشية وأكثر بعدا عن المنطق السياسي.

في هذا العالم الذي تغيّر لن يفاوض أحد إيران على ملفها النووي بمعزل عن سلوكها، أي عن ميليشياتها المذهبية التي هي أدوات لم يكن لديها من هدف في يوم من الأيام سوى تفتيت دول عربيّة الواحدة تلو الأخرى عبر تدمير مؤسساتها، كما حصل في لبنان على سبيل المثال وليس الحصر.

سيكون سلوك إيران جزءا لا يتجزّأ من أي مفاوضات ستطرح فيها أسئلة من نوع ما هي سياسة “الجمهوريّة الإسلاميّة” في العراق؟ ما الذي تفعله بلبنان حيث تقف وراء التصعيد الذي يمارسه “حزب الله”؟ ما الذي تفعله في اليمن، عبر الحوثيين الذين ما زالوا يطلقون صواريخ في اتجاه إسرائيل وما زالوا يهددون الملاحة في البحر الأحمر؟ متى سيتوقف الرهان الإيراني على العودة إلى سوريا في يوم من الأيّام؟

تلك هي الأسئلة الحقيقية التي ستفرض نفسها في المرحلة المقبلة… إلى جانب الملف النووي الإيراني، بطبيعة الحال.

8