سد النهضة يعيد تشكيل خارطة الطاقة في إثيوبيا
أديس أبابا - من شأن “سدّ النهضة الكبير” الذي شيّدته إثيوبيا على النيل أن يضاعف إنتاج الكهرباء التي ما زال نصف سكّان البلد تقريبا محرومين منها، ويساهم في تنمية الاقتصاد من خلال درّ عملات أجنبية وتعزيز السياحة وتحسين الصيد.
ويقدّر أن تبلغ الطاقة الإنتاجية للسدّ الذي يدشّنه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في التاسع من سبتمبر الجاري 5 آلاف ميغاواط، أي ضعف ما ينتج البلد راهنا.
ويقدَّم السد على أنه أكبر مشروع كهرومائي في أفريقيا ويشكّل “ثورة في مجال الطاقة”، كما قال تيغابو أتالو الخبير الإثيوبي في شؤون الطاقة.
وفي إثيوبيا، ثاني أكثر البلدان تعدادا للسكّان في القارة السمراء، لا كهرباء لحوالي 45 في المئة من السكّان المقدّر عددهم بحوالي 130 مليونا، وفق أرقام للبنك الدولي تعود للعام 2023. كما يعيش نحو ثلث سكّان البلد تحت خطّ الفقر.
ومن شأن هذا السدّ الضخم المشيد في الشمال الغربي على بعد حوالي ثلاثين كيلومترا من الحدود مع السودان، أن يتيح تنمية اقتصادية كبيرة، بحسب خبراء.
وقال سامسون برهان، المحلّل الاقتصادي الإثيوبي، “السد بالغ الأهمية بالنسبة إلى إثيوبيا، إذ إنه يعزّز الصناعات التي لم تكن تعمل بكامل طاقتها بسبب انقطاع التيّار”.
ينتظر تحسن إمدادات الكهرباء في المناطق الحضرية والريفية، ما قد يؤدي إلى تحولات اجتماعية تدريجية
وغالبا ما ينقطع التيّار الكهربائي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا حيث لا يتوقّف هدير مولّدات الكهرباء.
وأشار سامسون برهان إلى أن “بفضل خطوط الكهرباء بين الأقاليم التي تصل إلى تنزانيا وفي ظلّ الطلب المتزايد على الكهرباء في البلدان المجاورة، سيدرّ السدّ عائدات كبيرة بالعملات الأجنبية على البلد”، علما أنه في أمسّ الحاجة إليها.
وتواجه إثيوبيا التي ما زال اقتصادها في قبضة الدولة نقصا في العملات الأجنبية، لاسيما بسبب فاتورة المحروقات، والقيود على حركة الرساميل الأجنبية.
وأعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الاثنين أن عائدات “سدّ النهضة الكبير” تقدّر بمليار دولار في السنة، في مقابل كلفة إجمالية مقدّرة بحوالي أربعة مليارات دولار.
ومطلع العام 2024، فرضت السلطات في هذا البلد مترامي الأطراف الواقع في الشرق الأفريقي حظرا على استيراد المركبات العاملة بالطاقة الحرارية حتى العام 2030 في مسعى إلى تعزيز مبيعات السيّارات الكهربائية التي تشكّل اليوم 7 في المئة من إجمالي المركبات في البلد.
وفي ظلّ تنامي مبيعات هذه المركبات، “من المتوقّع أن تستهلك كمّية كبيرة من الطاقة مع تطوّر الأسطول وسيساعد السدّ في تلبية الطلب المتزايد”، بحسب تيغابو أتالو.
وفي العام 2022، كانت حوالي 97 في المئة من الكهرباء المولّدة في إثيوبيا التي تضمّ عدّة بحيرات، هيدرولية المصدر، وحوالي 3 في المئة منتجة من طواحين الهواء، وفق معطيات الوكالة الدولية للطاقة.
وشدّد تيغابو على أن الإيرادات الاقتصادية للسدّ الذي تبلغ سعته الإجمالية 74 مليار متر مكعّب من المياه “هائلة”، خصوصا مع تطوير أنشطة الصيد في محيطه وتعزيز السياحة. وتوقّع الخبير “إنشاء مدن جديدة حديثة ودينامية في المنطقة”.
ويمثّل “سد النهضة الكبير” أكثر من مجرد مشروع اقتصادي أو هندسي داخل إثيوبيا، فهو يكتسب بعدا رمزيا عميقا في الوجدان الشعبي، حيث يوظَّف كأداة للتعبئة الوطنية ومحاولة لتجاوز الانقسامات العرقية والسياسية التي تعصف بالبلاد.
وفي بلد يعاني من نزاعات داخلية مزمنة، ولاسيما في أقاليم مثل تيغراي، أوروميا، وأمهرة، شكّل السد أحد المشاريع القليلة التي تحظى بإجماع نسبي بين مختلف المكونات الإثنية، ما جعله رمزا للوحدة الوطنية وسط التوترات الداخلية.
ويقع السد في منطقة نائية نسبيا في شمال غرب البلاد، قريبة من الحدود مع السودان، وهي منطقة ظلت لعقود تعاني من التهميش التنموي. لذلك، فإن إقامة السد، وما يرتبط به من مشاريع بنى تحتية مرافقة (طرق، كهرباء، مؤسسات خدمية)، قد تسهم في تحفيز الهجرة الداخلية نحو هذه المناطق وتحسين مستويات المعيشة فيها، وبالتالي تخفيف الضغط السكاني على المدن الكبرى مثل أديس أبابا.
ويُنتظر من سد النهضة أن يساهم في تحسين إمدادات الكهرباء في المناطق الحضرية والريفية، ما قد يؤدي إلى تحولات اجتماعية تدريجية تشمل تحسنا في جودة التعليم، وارتفاع فرص تشغيل المشاريع الصغيرة، وتوسيع نطاق الرعاية الصحية، خاصة مع الاعتماد المتزايد على الرقمنة.
ويعيش نحو ثلث سكان إثيوبيا تحت خط الفقر، وبالتالي فإن حصولهم على كهرباء منخفضة التكلفة أو حتى مجانية في بعض المناطق النائية، قد يسهم في تحسين رفاههم الاجتماعي والاقتصادي. كما أن تشغيل السد سيخلق الآلاف من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة في قطاعات مثل البناء، النقل، الصيد، السياحة، والخدمات اللوجستية.
ومع ازدياد الإمدادات الكهربائية، يُنتظر أن تزداد معدلات استخدام الأجهزة المنزلية الحديثة، والهواتف المحمولة، وتقنيات الإنترنت، ما يؤدي إلى تحول ثقافي واجتماعي في أنماط الحياة التقليدية، خصوصا في المناطق الريفية. هذا التحول قد يؤدي من جهة إلى تحسين ظروف المعيشة، لكنه قد يخلق أيضا توترات ثقافية حول الحفاظ على القيم التقليدية.
ويمكن أن يؤدي السد إلى هجرة عكسية من المدن الكبرى إلى مناطق السد، في ظل ظهور فرص العمل والتنمية، ما قد يعيد توزيع الكثافة السكانية في البلاد ويحد من أزمة التوسع العشوائي في المدن.
ورغم الصورة الإيجابية العامة، فإن مشاريع السدود العملاقة في العالم غالبا ما تتسبب في تهجير سكان المناطق المجاورة للخزانات، وتغيير أنماط الملكية الزراعية والرعوية. لم تُنشر معلومات دقيقة عن حجم التهجير المرتبط بسد النهضة، لكن هناك احتمالات لوقوع نزاعات محلية حول الأراضي أو الموارد أو ظهور توترات بين السكان الأصليين والمستثمرين أو الوافدين الجدد.
وبعد سنوات من النزاعات والانقسامات، يشكل نجاح السد ورمزيته فرصة للحكومة الإثيوبية لتعزيز ثقة المواطنين في قدرة الدولة على إنجاز مشاريع كبرى وتحقيق منافع ملموسة للناس. وهذا قد ينعكس إيجابا على التماسك الاجتماعي، لكنه مرهون بمدى توزيع هذه الفوائد بشكل عادل بين مختلف الأقاليم.