الخوارزميات لا تمسك بالكاميرا وإنما بمستقبل الإبداع البصري
تتسابق كبرى شركات التكنولوجيا لإعادة تعريف صناعة الفيديو ليس بالكاميرا، بل بالخوارزميات. ومع إطلاق "ميوز ستريمر" تدخل الصين رسميًا السباق، وما بدأ كرفاهية يتحول إلى نمط إنتاج جديد يهدد بتغيير سوق العمل الفني والإعلاني.
لندن- في صباح 2 يوليو 2025، وبينما كانت الصين تعلن إطلاق نموذج جديد لإنتاج الفيديو بالذكاء الاصطناعي مخصّص للشركات، بدا أن السباق نحو إعادة تعريف صناعة الفيديو قد بلغ مستوى غير مسبوق. شركة بايدو، أحد عمالقة التكنولوجيا الصينية، كشفت عن “ميوز ستريمر” -نموذج يحوّل الصور إلى مقاطع فيديو تصل إلى عشر ثوان، ويقدَّم في ثلاث نسخ: لايت، برو، وتربو.
ربما لا يبدو ذلك مُدهشًا في ظاهره، لكنّ السياق أعمق من مجرد ميزة تقنية جديدة. نحن في زمنٍ لم تعد فيه الكاميرا سيدَة الصورة، بل أصبحت الخوارزمية بديلاً منافسًا، يطمح لأن يكون المُخرج والمُصور والمُحرر في آنٍ واحد.
أقل من عام مضى على إطلاق “سورا” من OpenAI، النموذج القادر على تحويل النصوص إلى مقاطع فيديو مذهلة بصريًا. اللحاق بهذا التحول لم يكن خيارًا بل ضرورة. وهكذا، دخلت شركات مثل بايت دانس وعلي بابا وتينسنت سباقًا لإثبات أن الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يصنع الفيديو مثلما صنع الثورة اللغوية.
لكن بايدو اختارت طريقًا مختلفًا؛ فهي لا تستهدف المستهلكين العاديين، بل تُراهن على القطاع المؤسسي، في مؤشر على أن المعركة المقبلة ليست فقط على “الترفيه”، بل على أدوات الإنتاج نفسها -في التسويق والتعليم والعلاقات العامة، وحتى السياسة.

“ميوز ستريمر” لا يُنتج فيديوهات طويلة، لكنه يضع حجر الأساس لنموذج إنتاج جديد: سريع، دقيق، وقليل الكلفة. إنّه أشبه بما كانت تفعله “كانفا” في التصميم، لكنه الآن يُطبَّق على الزمن البصري المتحرك.
لنتخيّل محرر فيديو يعمل على قصة قصيرة إعلانية. كان في السابق يحتاج إلى فريق صغير، كاميرا، ومونتاج يستغرق ساعات. أما اليوم فيمكنه أن يُدخل صورة ومنشورًا بسيطًا، ليحصل على فيديو كامل في غضون دقائق.
هذه الكفاءة لا تعني فقط تقليص الموارد، بل تعني تغيير بنية الصناعة نفسها. فبدلاً من عشرات المحترفين الذين يُنتجون محتوى لعلامة تجارية أو قناة، قد يُصبح ذلك في يد شخص واحد مدعوم بنموذج ذكاء اصطناعي قوي.
وبينما ينذر هذا التحول بتحديات كبيرة على صعيد الوظائف التقليدية، إلا أنه يفتح كذلك آفاقًا للتمكين. فالمصمم المستقل في تونس، أو رائد الأعمال في جاكرتا، أو الصحافي في الخرطوم، صار بإمكانهم إنتاج مقاطع تضاهي ما تصنعه شركات كبرى بميزانيات ضخمة.
ليس تمامًا، بل يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي لن يلغي الإبداع البشري، لكنه سيغيّر شكله. سيصبح المبدع أكثر شبهًا بموجّه أو “مخرج افتراضي”، يحدد الفكرة ويشرف على التنفيذ، تاركًا التفاصيل للتقنية.
لكن في عالم تُختصر فيه الدقائق بالمشاهد، قد تظهر أيضًا مخاطر التكرار والسطحية، إذ تميل النماذج إلى إنتاج محتوى بصري قائم على الأنماط. وهنا تبقى للعين البشرية والإحساس والحدس الفني قيمة لا غنى عنها.
من يملك الصورة؟ من يُوجّه القصة؟ ربما الأهم من كل شيء هو التساؤل حول من يتحكم في السرد البصري في عصر الذكاء الاصطناعي. إن انتقال أدوات إنتاج الفيديو إلى شركات الذكاء الاصطناعي يعيد صياغة ميزان السلطة الإعلامي.
في السابق كان من يملك الكاميرا يملك السرد. اليوم، من يملك النموذج يملك القدرة على التأثير. هذا يُثير تساؤلات حول الخصوصية، والتوجيه الخوارزمي، وغياب الرقابة التحريرية.
بايدو اختارت طريقًا مختلفًا؛ فهي لا تستهدف المستهلكين العاديين، بل تُراهن على القطاع المؤسسي
هل سنعتاد على “المحتوى الاصطناعي”؟ الإجابة لا تحتمل التأخير. نحن بالفعل نتفاعل يوميًا مع مقاطع ترويجية، تعليمية، وحتى أفلام قصيرة صُممت جزئيًا أو كليًا بالذكاء الاصطناعي، من دون أن نلاحظ أحيانًا.
لكن ما سيُحدد مستقبل هذه الصناعة ليس فقط ما يمكن إنتاجه تقنيًا، بل ما يمكن قبوله إنسانيًا: هل يثق الجمهور بما لم تُصوّره عدسة؟ هل يُبدي التعاطف مع ما صنعه نموذج؟ وهل يصمد الفيديو، كفنّ سردي، في زمن يتقلّص فيه كل شيء إلى لحظة قابلة للتمرير؟
في الختام يمكن القول إن الكاميرا لم تمت.. لكنها لم تعد وحدها. ما تصنعه بايدو اليوم ليس مجرد منتج جديد، بل إعلان عن ولادة مشهد بصري جديد، حيث تغيب الحدود بين الواقع والافتراض، بين الكاميرا والخوارزمية، وبين المخرج والمبرمج.
ليس السؤال اليوم: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُنتج فيديوهات؟ بل: ماذا سنفعل نحن بهذه القدرة؟ وكيف نُعيد ابتكار الإبداع البشري، في عصر لم تعد فيه العدسة مركز الصورة؟