إفلات "حماس" من إيران…
ليس قبول "حماس" بتسليم الرهائن الإسرائيليين كلّهم والجثامين الموجودة لديها سوى استسلام أمام طرح الرئيس دونالد ترامب وخطته لوقف حرب غزّة. في الأصل، لا يمكن الحديث عن خطة أميركيّة متوازنة، نظرا إلى أنّ تلك الخطة جاءت نتيجة حرب أدت إلى التسبب بتحويل معظم غزّة إلى أرض طاردة لأهلها.
يعكس قبول “حماس” إطلاق الرهائن نتيجة طبيعيّة لحرب يسعى العرب الواعون إلى وضع حدّ لها من زاوية الحرص على أهل غزّة، الذين ابتلوا بالحركة وممارساتها.
وضعت الخطة الأميركيّة، التي لم يكن ممكنا الحصول على أفضل منها، “حماس” أمام أمر واقع، خصوصا بعدما زال أي غطاء عربي كانت تستطيع الاعتماد عليه. يأتي ذلك بعدما أيدت قطر ومصر الخطة. جاء التأييد القطري للخطة مع اعتذار بنيامين نتانياهو من أمير الدولة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني من جهة ومع إصدار ترامب، من جهة أخرى، “أمرا تنفيذيا” تتعهد بموجبه الولايات المتحدة الدفاع عن قطر في حال تعرّضها مجددا لأي هجوم، على غرار ذلك الذي شنته إسرائيل حديثا.
تظلّ خطة ترامب مدخلاً محتملاً لوقف الحرب في غزّة وبداية مرحلة جديدة في منطقة تشهد تغييرات كبرى قد تصل إلى إعادة رسم خرائط الدول ومواقفها الإستراتيجية
يعني ذلك عمليا اقتراب “حماس” من قطر ومصر وتركيا أكثر على حساب النفوذ الإيراني الذي أخذ الحركة إلى كارثة “طوفان الأقصى”. هل يعني أيضا إفلات الـ”حماس” من سطوة إيران؟
مع مرور عامين على حرب غزّة، التي بدأت في السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر 2023، تعبّر الخطة الأميركيّة عن رغبة في وقف حرب تشنّها الحكومة الإسرائيلية بهدف الانتهاء من القطاع بمن فيه. شكّلت غزّة في كلّ وقت صداعا للدولة العبرية أرادت التخلص من القطاع بأي طريقة وصولا إلى الانسحاب الكامل منه صيف 2005، بقرار من حكومة برئاسة ارييل شارون.
لم تأت الخطّة الأميركية من فراغ. جاءت من منطلق مهمّ يتمثّل في رغبة عربيّة في وقف الحرب في وقت يوجد إصرار إسرائيلي على الاستمرار فيها ومتابعة تصفية القضيّة الفلسطينية عبر جعل حرب غزّة تتمدد في اتجاه الضفّة الغربية. تظلّ الضفّة الهدف الأساسي لليمين الإسرائيلي الذي يحلم بضمّ الجزء الأكبر منها بما يجعل خير الدولتين شبه مستحيل.
لا شكّ أن الموقف الأميركي، على الرغم من عدم توازنه، لم يأت من فراغ. جاء على خلفية المبادرة السعودية – الفرنسيّة التي دفعت معظم دول العالم إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية. إضافة إلى ذلك، لا يمكن تجاهل دور دولة الإمارات العربيّة التي أعلنت صراحة أن ضمّ الضفة الغربيّة “خط أحمر” يهدّد الاتفاقات الإبراهيميّة. امتلك وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد شجاعة عقد لقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في نيويورك من أجل إبلاغه مباشرة مدى الحاجة إلى وقف للنار في غزة ومدى حاجة المنطقة إلى سلام واستقرار بعيدا عن الحروب والمشاريع الوهميّة مثل مشروع “إسرائيل الكبرى”.
لم يكن هناك مفرّ من قبول الخطة الأميركية. لا توجد لعبة أخرى غيرها في حال كان مطلوبا وقف حرب غزّة والانتهاء من الحلف الضمني القائم تاريخيا بين “حماس” واليمين الإسرائيلي بقيادة “بيبي” نتانياهو برعاية إيرانيّة وغير إيرانيّة. لم يكن ممكنا لعملية الابتزاز التي تمارسها “حماس” الاستمرار إلى ما لا نهاية. كان الاحتفاظ بالرهائن الإسرائيليين يبرر لإسرائيل متابعة حربها الوحشية على غزّة. مثل هذا الأمر لم يعد مقبولا حتّى داخل الولايات المتحدة.
يوجد واقع لا مفرّ من التعاطي معه. اضطرت "حماس" أخيرا للتعاطي مع هذا الواقع والانضمام إلى مؤيدي خطة ترامب بدل أن تبقى مجرّد ورقة من أوراق "الجمهوريّة الإسلاميّة" في المنطقة
ما لا بدّ من تذكّره في كلّ وقت أن الرهائن كانت، ولا تزال، آخر همّ لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية. استخدم “بيبي” الرهائن لتبرير الجرائم التي يرتكبها. بكلام أوضح، تحوّلت “حماس” إلى شريك في الجرائم الإسرائيلية، خصوصا في ضوء تأكيد الأحداث المتلاحقة أنّه لم يكن من هدف للحركة منذ قيامها في العام 1987 سوى ضرب المشروع الوطني الفلسطيني. رفعت الحركة التي هي جزء لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين شعارات كبيرة من نوع “فلسطين وقف إسلامي”. انتهى بها الأمر أداة في خدمة الاحتلال الإسرائيلي، خصوصا في ضوء إنشاء “إمارة إسلاميّة” في غزة بعد الانقلاب الدموي الذي نفّذته منتصف العام 2007. ليس عيبا تسليم “حماس” لسلاحها كي لا يعود لدى إسرائيل أي عذر. اللافت أنّ الحركة لم تتطرّق في ردها على خطة ترامب إلى موضوع السلاح. هل سيكون تسليم السلاح حجة جديدة يلجأ إليها رئيس الوزراء الإسرائيلي كي يتابع الحرب على غزّة بهدف تهجير أهلها؟
غامرت “حماس” وراهنت على “وحدة الساحات” والوعود الإيرانيّة بدل استيعاب أنّ سيطرتها على غزّة كانت هدفا إسرائيليا بحدّ ذاته. استخدمت إسرائيل “حماس”، قبل أن يصدم “طوفان الأقصى” الدولة العبريّة ويبدّل موقفها من الحركة. كان دعم “حماس” والمساعدة في تمرير الأموال والسلاح لها خير وسيلة لتكريس الانقسام بين الضفّة الغربية وغزّة وتعميقه.
كشفت الخطة الأميركيّة أنّ حرب غزّة يمكن أن تنهي بطريقة لم يكن هناك من يتصوّر أنها ستنتهي بها. من كان يتصوّر مثلا، على هامش حرب غزّة، حجم الهزيمة التي لحقت بـ”حزب الله” في لبنان؟ من كان يتصوّر هذا السقوط للنظام الأقلّوي الذي كان يحكم سوريا منذ العام 1970؟ من كان يتصوّر خروج إيران من سوريا واضطرارها إلى خوض حرب على أرضها للمرّة الأولى منذ نهاية الحرب العراقيّة – الإيرانيّة في العام 1988؟
يوجد واقع لا مفرّ من التعاطي معه. اضطرت “حماس” أخيرا للتعاطي مع هذا الواقع والانضمام إلى مؤيدي خطة ترامب بدل أن تبقى مجرّد ورقة من أوراق “الجمهوريّة الإسلاميّة” في المنطقة.
تظلّ خطة ترامب مدخلا محتملا لوقف الحرب في غزّة. ليست عمليا سوى بداية مرحلة جديدة في منطقة شهدت تغييرا كبيرا، قد يصل إلى تغيير خرائط الدول ومواقفها. جعل الخوف من هذا التغيير بلدا مثل العراق خاضعا لإيران، في ظلّ حكومته الحالية، يجد مصلحة بتأييد خطة الرئيس الأميركي!